فلسطينمصر

يوسف محمد يكتب: تاريخ الاعتقالات في مصر – من زمن الثورة إلى زمن الخوف

مقدمة: حين يصبح السجن مرآة الدولة

من يقرأ تاريخ مصر الحديث، يكتشف أن علاقة الدولة بالمواطن لم تُبنَ على الثقة، بل على الشك والرقابة.
منذ منتصف القرن العشرين، لم تغب مشاهد الاعتقالات عن المشهد السياسي، بل كانت دومًا المقياس الحقيقي لمدى خوف السلطة من المجتمع.
ففي كل مرحلة سياسية، كان السجن هو «الردّ الأمني» على الأسئلة التي لم ترد الدولة الإجابة عنها.

عهد عبد الناصر: الثورة التي سجنت أبناءها

بعد ثورة يوليو 1952، تحولت مصر إلى دولة مركزية قوية، لكنها أيضًا دولة أمنيّة بامتياز.
بدأت موجات الاعتقالات مبكرًا، فبعد إقصاء محمد نجيب عام 1954، أُطلق أول سلاح سياسي من نوعه: الاعتقال الإداري دون محاكمة.

🔹 أرقام ودلالات

  • في عام 1954 وحده، اعتُقل أكثر من 10 آلاف شخص في ما عُرف بـ«أزمة الإخوان».
  • ووفق تقديرات مؤرخين، بلغ عدد المعتقلين السياسيين بين عامي 1954 و1965 نحو 40 ألف شخص من مختلف الاتجاهات.
  • أنشئت في تلك الحقبة سجون سيئة السمعة مثل سجن الواحات، وسجن طرة، وسجن ليمان أبو زعبل، حيث جرى تعذيب المعارضين داخل ما وصفه البعض بـ«المعتقلات الناصرية».

كان عبد الناصر يرى أن «الثورة» لا يمكن أن تُحكم إلا بالقبضة الحديدية. وهكذا تأسست فلسفة الدولة الأمنية الحديثة: المعارضة خطر، والاعتقال وقاية.

عهد السادات: الحرية المؤجلة والقبضة العائدة

حين تولى أنور السادات الحكم عام 1970، حاول أن يقدم نفسه كوجه مختلف عن عبد الناصر.
أفرج في بدايات حكمه عن مئات من السجناء السياسيين، وسمح بعودة بعض رموز المعارضة، لكن الانفتاح السياسي لم يدم طويلًا.

فمع تصاعد الغضب على سياساته الداخلية واتفاقية كامب ديفيد، لجأ السادات إلى الخيار نفسه: الاعتقال الجماعي.

🔹 سبتمبر 1981

  • شملت الحملة نحو 1536 شخصًا من مختلف الاتجاهات السياسية والدينية.
  • تم إغلاق صحف معارضة، واحتُجز قيادات من اليسار، والإخوان، والكنيسة، والليبراليين.
  • حتى الشيخ محمد متولي الشعراوي والبابا شنودة الثالث طالهما التضييق.

لم يكن الهدف محاربة تيار بعينه، بل إسكات المجال العام بالكامل.
وانتهت التجربة باغتيال السادات نفسه بعد شهرٍ واحد، لتبدأ مرحلة جديدة من القمع الصامت.

عهد مبارك: الطوارئ الدائمة والاستقرار الزائف

ورث حسني مبارك نظامًا قائمًا على الطوارئ، ولم يُلغِها حتى آخر أيام حكمه.
خلال ثلاثين عامًا من حكمه، عاش المصريون في ظل قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، الذي جُدد عشرات المرات بلا انقطاع.

🔹 أبرز الإحصاءات

  • وفق تقارير منظمات حقوقية، تراوح عدد المعتقلين السياسيين في التسعينيات بين 20 و25 ألف معتقل.
  • كانت الاعتقالات تتم غالبًا بموجب «قرارات أمن الدولة»، دون إذن قضائي.
  • توسعت السجون لتضم عشرات المقرات الجديدة: العقرب، المرج، الوادي الجديد، برج العرب وغيرها.
  • في منتصف التسعينيات، شهدت مصر ذروة المواجهة مع الجماعة الإسلامية، ما أدى إلى حملات اعتقال جماعية في محافظات الصعيد.

وخلف شعارات «الاستقرار»، ترسخت منظومة قمعية جعلت من الخوف سياسة رسمية، ومن الطوارئ قاعدة للحكم.

ثورة يناير: انفتاح الأمل وسرعة الارتداد

عام 2011، فتحت الثورة باب الأمل.
أُفرج عن مئات من المعتقلين، وأُلغيت وزارة الإعلام مؤقتًا، وبدأت نقاشات حول العدالة الانتقالية.
لكن الفترة الانتقالية القصيرة لم تُنضج التجربة الديمقراطية، وسرعان ما عادت الأجهزة الأمنية إلى الواجهة بعد انقلاب 3 يوليو 2013.

في تلك اللحظة، بدأت أكبر موجة اعتقالات في تاريخ مصر الحديث.

من 2013 إلى 2015: أكبر عملية قمع سياسي في نصف قرن

بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، شنت السلطات حملات أمنية شاملة ضد معارضي الانقلاب من كافة التيارات.

🔹 وفق منظمات حقوقية:

  • تم اعتقال أكثر من 60 ألف شخص خلال السنوات الأولى فقط.
  • في أغسطس 2013، شهدت البلاد مذبحة رابعة العدوية التي أعقبها أكبر حملة اعتقالات جماعية في تاريخ مصر الحديث.
  • شملت الاعتقالات أعضاء في جماعة الإخوان، ونشطاء من 6 أبريل، وصحفيين، وأساتذة جامعات، بل وحتى طلبة مدارس.

صدرت عشرات القوانين المقيدة للحريات، منها:

  • قانون التظاهر (107 لسنة 2013) الذي جعل المشاركة في احتجاج سلمي سببًا كافيًا للاعتقال.
  • قانون الكيانات الإرهابية (8 لسنة 2015) الذي سمح بملاحقة الأشخاص والمنظمات دون حكم قضائي.

عهد السيسي: عصر السجون الكبرى

منذ 2014 وحتى اليوم، شهدت مصر اتساعًا غير مسبوق في البنية التحتية للسجون.
ففي أقل من عشر سنوات، تم بناء أكثر من 38 سجنًا جديدًا، ليرتفع العدد الإجمالي إلى ما يقارب 78 سجنًا ومئات مراكز الاحتجاز، وفق بيانات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

🔹 أرقام صادمة

  • ما بين 65 و70 ألف معتقل سياسي وفق تقديرات هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية.
  • أكثر من 4,800 حالة اختفاء قسري موثقة من عام 2015 حتى 2025 بحسب حملة أوقفوا الاختفاء القسري.
  • نحو 19,885 حالة اختفاء منذ 2013 وثقها مركز الشهاب لحقوق الإنسان.
  • وفاة ما لا يقل عن 1,200 محتجز في أماكن الاحتجاز خلال العقد الأخير بسبب الإهمال الطبي أو التعذيب، وفق منظمات مصرية مستقلة.

السجون الجديدة مثل بدر 1 و2 و3، ووادي النطرون، والعاشر من رمضان، تُقدَّم رسميًا كمؤسسات «إصلاح وتأهيل»، لكن شهادات المعتقلين والمحامين تؤكد أنها في الحقيقة مراكز احتجاز معزولة عن الرقابة، حيث يُمنع الاتصال بالعالم الخارجي لأشهر وسنوات.

أنماط الاعتقال وأساليب القمع

تطورت أدوات الاعتقال في مصر لتشمل:

  1. الاختفاء القسري: وهو الاحتجاز السري دون إقرار رسمي، قبل إظهار الضحية بعد أسابيع أمام نيابة أمن الدولة.
  2. الحبس الاحتياطي المفتوح: حيث يبقى المتهم محتجزًا لسنوات دون محاكمة، عبر تجديد متكرر كل 15 يومًا.
  3. الاعتقال الرقمي: بموجب منشورات على وسائل التواصل، واتهامات بـ«نشر أخبار كاذبة».
  4. الدوائر الإرهابية: محاكم استثنائية تعمل بموجب قوانين خاصة، تصدر أحكامًا جماعية تصل إلى الإعدام.

تكلفة إنسانية واقتصادية

لا تقتصر آثار الاعتقال على الضحايا، بل تمتد إلى أسرهم والمجتمع.

  • تشير تقديرات غير رسمية إلى أن كل معتقل يؤثر ماليًا على ما لا يقل عن 4 أفراد من أسرته.
  • خسرت مصر آلاف العقول في الطب، والهندسة، والإعلام، بسبب الهجرة القسرية.
  • بلغ متوسط مدة الحبس الاحتياطي في بعض القضايا السياسية من 2 إلى 5 سنوات دون حكم نهائي.

النتيجة هي مجتمع يعيش تحت التهديد الدائم، تتآكل فيه الثقة بين المواطن والدولة، ويُختزل فيه الأمن في السيطرة، لا في العدالة.

الاعتقال كسياسة مستمرة

تاريخ الاعتقالات في مصر ليس سلسلة من الحوادث المنفصلة، بل نهج ممتد تتوارثه الأنظمة.
من عبد الناصر إلى السيسي، يتغير الخطاب السياسي، لكن السجن يبقى حاضرًا بوصفه أداة لضبط المجال العام.
الفرق الوحيد هو الوسائل: من الزنزانة الحجرية إلى الحبس الإلكتروني، ومن الاعتقال المادي إلى التخويف المعنوي.

خاتمة: طريق الحرية يمر عبر الذاكرة

حين نقرأ تاريخ الاعتقالات في مصر، نكتشف أن كل جيل دخل سجونه، وكل جيل حلم بخروجٍ لا يكتمل.
لكن الذاكرة لا تُسجن، والعدالة لا تموت بالتقادم.
إن الاعتقال قد يُسكت الأصوات، لكنه لا يمحو الأسئلة.
وفي بلدٍ يحكمه الخوف، تظل الحرية هي الفكرة الوحيدة التي لا تُعتقل.

يوسف محمد – كاتب وباحث في الشأن السياسي والحقوقي

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى