الأمم المتحدة هي المنظمة المسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين. ولأنها تأسست على قاعدة تحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية أو حتى مجرد التهديد باستخدامها، فقد كان من الطبيعي أن تنشغل بالبحث عن تسوية للأزمة الناجمة عن الحرب التي تشنها “إسرائيل” حالياً على قطاع غزة، والتي قد يتسع نطاقها في أي لحظة لتتحول إلى حرب إقليمية شاملة.
ورغم قيام جميع الأجهزة المعنية في منظومة الأمم المتحدة كلها بعقد عشرات الاجتماعات وإصدار العديد من القرارات والبيانات والتقارير على مدى الأشهر الستة الماضية، فإنها عجزت عن وقف حرب تتسبب بقتل وجرح ما يقارب ألف فلسطيني يومياً، معظمهم من النساء والأطفال، وفي تجويع كل سكان قطاع غزة البالغ عددهم ما يقارب 5.2 مليون فلسطيني وحرمانهم من كل سبل الحياة.
صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تعجز فيها هذه المنظمة العالمية عن معالجة أزمة تهدد السلم والأمن الدوليين، لكنها المرة الأولى التي تفشل فيها في وقف حرب تشنها دولة مستعمرة تسعى لإبادة شعب تحتله ولا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم لإجبار شعب واقع تحت الاحتلال على الرحيل من أرضه قسراً.
كان من الطبيعي أن تلجأ الدول المعنية إلى مجلس الأمن أولاً، باعتباره الجهاز الرئيسي المسؤول عن حفظ السلم والأمن في العالم، لإصدار قرار يلزم “إسرائيل” بوقف إطلاق النار، غير أن الجلسات التي عقدها المجلس لهذا الغرض أثبتت أنه جهاز أصيب بالعطب، فالولايات المتحدة تدعي أن حماس هي من بدأت الحرب، ومن ثم لـ”إسرائيل” الحق في الدفاع عن نفسها بتدمير البنية العسكرية لهذه المنظمة التي تعتبرها “إرهابية” وإسقاط حكمها في القطاع.
هذا الموقف ينطوي على مغالطة، وعلى مخالفة صريحة للقانون الدولي، فحماس نشأت في أرض محتلة لشعب يحق له قانوناً العمل على تحرير أرضه بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، وهي منظمة تحظى بتأييد ودعم أغلبية هذا الشعب، بدليل فوزها في الانتخابات التشريعية الوحيدة التي جرت عام 2005.
ومع ذلك، فقد استمرت إدارة بايدن في التمسك بمواقفها المضللة، حتى بعدما تبين لها أن “إسرائيل” لا تسعى لتدمير حماس فحسب، إنما تحاول انتهاز فرصة ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإخلاء قطاع غزة من سكانه، وقامت باستخدام الفيتو 3 مرات لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار، ولو لإدخال مساعدات إنسانية لشعب يتعرض للإبادة.
أخيراً فقط، وبعدما وجدت نفسها معزولة عن العالم كله، بما في ذلك أقرب حلفائها، اضطرت إلى الامتناع عن التصويت على مشروع قرار قدمته الدول العشر المنتخبة، يطالب بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، وبالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، ما سمح بتمريره واعتماده كقرار صادر عن مجلس الأمن (القرار 2728 الصادر يوم 25 آذار/مارس 2024).
ومع ذلك، ورغم إلزامية جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، فإن المندوبة الأميركية الدائمة ادعت أنه قرار غير ملزم، ما بعث برسالة ضمنية إلى “إسرائيل” كي تواصل حربها الإجرامية في قطاع غزة.
حين تبين أن طريق مجلس الأمن مسدود، ولن يفضي إلى أي نتيجة ملموسة لوقف هذه الحرب الإجرامية، تم اللجوء إلى الجمعية العامة التي اجتمعت استناداً إلى قرار “الاتحاد من أجل السلام”، والذي يمنحها صلاحيات إضافية لمناقشة واتخاذ القرارات في المجالات المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين في حال فشل مجلس الأمن أو عجزه عن القيام بواجباته.
وقد اجتمعت هذه الجمعية أكثر من مرة لمناقشة الوضع في عزة، واتخذت بالفعل عدة قرارات تطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، كان أهمها قرار أصدرته يوم 12 كانون الأول/ديسمبر 2023 بأغلبية كاسحة وصلت إلى 153 صوتاً من مجموع الدول الأعضاء البالغ عددها 193 دولة، ولم يعترض عليه سوى 10 دول فقط.
ولأن الجمعية العامة هي الجهاز الوحيد الذي تمثل فيه جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، يمكن القول إن الأغلبية الكبيرة التي حصل عليها هذا القرار عكست حجم التحول الذي طرأ على موقف المجتمع الدولي تجاه ما يجري في قطاع غزة، ليس على صعيد الرأي العام العالمي فحسب، ولكن أيضاً على صعيد الموقف الرسمي للدول، مسجلاً بذلك سقوط السردية الإسرائيلية المزيفة حول حقيقة ما جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومؤكداً في الوقت نفسه عزلة “إسرائيل” والدول المساندة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
ورغم ذلك، ضربت بقرارات الجمعية العامة عرض الحائط، ولم تعرها أي اهتمام، وراحت تواصل حربها المجنونة على الشعب الفلسطيني الأعزل في القطاع.
أمام هول المجازر التي ترتكبها “إسرائيل” في قطاع غزة، وفي تحرك موازٍ، بادرت جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي للأمم المتحدة، تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب أعمال إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، منتهكة بذلك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وقد أقرت هذه المحكمة بالفعل وجود قرائن على شبهة ارتكاب “إسرائيل” لجريمة الإبادة الجماعية، ومن ثم أصدرت في 26 كانون الثاني/يناير 2024 أمراً يفرض على “إسرائيل” اتخاذ سلسلة من الإجراءات الاحترازية التي تستهدف حماية الشعب الفلسطيني.
ولأن “إسرائيل” تجاهلتها جميعاً، فقد اضطرت المحكمة إلى أن تصدر في 28 آذار/مارس أمراً جديداً، أكثر وضوحاً وتحديداً، تطلب فيه من “إسرائيل” “توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها من دون عوائق، وعلى نطاق واسع -بما في ذلك الغذاء والماء والكهرباء والوقود والمأوى والمساعدات الإنسانية ومتطلبات الملابس والنظافة والصرف الصحي، فضلاً عن الإمدادات الطبية والرعاية الطبية للفلسطينيين في جميع أنحاء غزة، بما في ذلك عن طريق زيادة قدرة وعدد نقاط العبور البرية وإبقائها مفتوحة لأطول فترة ممكنة”.
وأضاف أمر المحكمة أنّ على “إسرائيل” أن “تضمن بشكل فوري عدم قيام قواتها العسكرية بارتكاب أعمال تشكل انتهاكاً لأي من حقوق الفلسطينيين في غزة كمجموعة محمية بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وتوصيل المساعدات الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل”. ومرة أخرى، ضربت “إسرائيل” عرض الحائط بهذه الأوامر الصادرة عن أعلى هيئة قضائية في العالم.
لم يستطع السكرتير العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، التزام الصمت أمام هول ما يجري في القطاع، فقد صرح بأن ما حدث في 7 تشرين الماضي “لم ينجم عن فراغ”، وقام بأكثر من زيارة للجانب المصري من معبر رفح لتفقد الأوضاع البائسة لشحنات المعونة الإنسانية المتراكمة أمام المعبر، وأخيراً قرر استخدام الصلاحيات التي تتيحها له المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تخوله سلطة تنبيه مجلس الأمن إلى كل ما من شأنه تهديد السلم والأمن الدوليين. وعندما عقد المجلس وفقاً لهذا الإجراء، وذلك لأول مرة منذ توليه رئاسة الأمانة العامة، طالبه باتخاذ قرار فوري لوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية.
هذه المواقف المتجردة والطبيعية أثارت غضب المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة الذي نعت السكرتير العام للأمم المتحدة بأبشع الأوصاف، متهماً إياه بمعاداة السامية والوقوف إلى جانب الإرهاب، وطالبه بتقديم استقالته!
على صعيد آخر، حاولت العديد من الوكالات الدولية المتخصصة، كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأعذية والزراعة وغيرها، وكذلك كل أجهزة الأمم المتحدة المعنية بشؤون اللاجئين والإغاثة، لفت نظر المجتمع الدولي إلى حجم الكارثة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من خلال تقارير تثبت حجم الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل”، والتي توثق مظاهر انهيار النظم الصحية والتعليمية والإغاثية في القطاع وتحوله إلى منطقة غير قابلة للحياة، مؤكدة أن ما يزيد على 2 مليون إنسان باتوا على وشك أن يتعرضوا لمجاعة فعلية خلال أسابيع قليلة.
ذلك كله لم يغير شيئاً من سلوك “إسرائيل” التي راحت تواصل ارتكاب جرائم تقشعر لها الأبدان، كان آخرها قتل 7 من موظفي الإغاثة الأجانب العاملين في منظمة “المطبخ المركزي العالمي”، ما يؤكد إصرار هذه الدولة المارقة على تجويع سكان القطاع لدفعهم نحو النزوح.
ويعود السبب في هذا الصلف المذهل من جانب “إسرائيل” إلى اطمئنانها التام إلى أنها تستطيع أن تفلت بكل جرائمها دون عقاب، مهما بلغت فظاعتها، وذلك لسبب واضح تماماً، هو أن الولايات المتحدة جاهزة دائماً لحمايتها في مجلس الأمن؛ الجهة الوحيدة المخولة لفرض عقوبات على الدول التي تنتهك القوانين والأعراف الدولية، ومستعدة في كل وقت لاستخدام الفيتو للحيلولة دون توقيع أي عقوبات عليها.
أخلص مما تقدم إلى أنَّ الأمم المتحدة فشلت فشلاً ذريعاً في امتحان غزة، وكان سقوطها هناك مدوياً. صحيح أن معظم أجهزتها حاول القيام بدوره لتقديم حد أدنى من الحماية للشعب الفلسطيني في غزة، لكن هذه المنظمة العتيدة اصطدمت في النهاية بعقبة كأداء ناجمة عن التحالف العضوي بين القوة الأعظم والكيان الأكثر إجراماً في العالم.
وما لم يتمكن المجتمع الدولي من الاتفاق على صيغة لإصلاح مجلس الأمن وتغيير قواعد التصويت فيه، فسوف يتحول المجتمع الدولي إلى ساحة تسود فيها شريعة الغاب مثلما يحدث الآن في قطاع غزة.