مقالات ورأى

رسائل وتداعيات الردّ الإيراني على العدوان الإسرائيلي

المغزى الحقيقي لما أقدمت عليه إيران ليلة الأحد الماضي لا ينبغي أن يقاس بحجم ما تسبّب فيه من خسائر لـ “إسرائيل”، وإنما بنوعية الرسائل التي سعت إيران لتوصيلها إلى مختلف الأطراف المنخرطة في صراعات المنطقة.

ما إن تناقلت وكالات الأنباء العالمية، ليلة الأحد الماضي، خبراً مفاده أن مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ المجنّحة والباليستية انطلقت من داخل الأراضي الإيرانية

لتوجيه ضربة عسكرية مباشرة لـ “إسرائيل”، رداً على قيام الأخيرة بتدمير القنصلية الإيرانية في دمشق منذ نحو أسبوعين،

حتى حبس العالم أنفاسه وراح يتابع ما يجري بقلق شديد، خشية أن تؤدي هذه الضربة إلى اندلاع حرب إقليمية شاملة في منطقة الشرق الأوسط المتخمة بكل أنواع الأزمات.

لم يكن إقدام إيران على هذه الضربة بالأمر المستبعد في حد ذاته، خصوصاً وأن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق كان قد أسفر عن مصرع قادة كبار في الحرس الثوري الإيراني.

غير أن معظم المراقبين المتابعين للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط استبعدوا أن تجرؤ إيران على الدخول في صدام عسكري مباشر مع “إسرائيل”،

بل وراح بعضهم يشكّك في قدرة إيران على الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع دولة تبعد عنها ما يقرب من ألفي كيلومتر، وتمتلك مخزوناً من السلاح النووي،

ولديها حلفاء أقوياء موجودون في المنطقة بقواعدهم العسكرية وأساطيلهم البحرية، ويقفون على أهبة الاستعداد لنجدتها والدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة،

تتقدّمهم الولايات المتحدة الأميركية ومعها عدد لا يستهان به من الدول الأوروبية.

بعد ساعات قليلة من الإعلان عن بدء هجومها الكبير، صدرت عن إيران تصريحات رسمية تشير إلى أن هذا الهجوم وصل إلى نهايته،

بعد أن أدى الغرض المستهدف من ورائه ونالت “إسرائيل” ما تستحقه من عقاب، مؤكدة أنها لا تنوي التصعيد ولا تبحث عنه، لكنها تحتفظ لنفسها بالحق في اتخاذ إجراءات عقابية

أشد صرامة وقسوة إن أقدمت “إسرائيل” على ارتكاب أيّ أعمال عدوانية أو استفزازية تضرّ بمصالحها في المنطقة أو في أي مكان آخر في العالم. 

بعد ذلك خرج المتحدّث باسم “الجيش” الإسرائيلي ليدلي بدوره بتصريحات تؤكد فشل الهجوم الإيراني وتمكّن “إسرائيل” من إسقاط 99% من المسيّرات والصواريخ الإيرانية المهاجمة،

حتى من قبل أن تتمكّن حتى من دخول المجال الجوي لـ “إسرائيل”، وذلك بالتعاون مع حلفائها الدوليين ومع جيرانها في المنطقة،

لكنه اعترف بأن هذا الهجوم أسفر في الوقت نفسه عن إصابة قاعدة عسكرية بأضرار “طفيفة” لم تؤثّر على سير العمل فيها.

ثم توالت التصريحات الصادرة عن مصادر رسمية غربية تتبنّى السردية الإسرائيلية وتؤكد فشل الهجوم الإيراني ومشاركة كلّ من أميركا وبريطانيا وفرنسا ودول عربية مجاورة لـ “إسرائيل” في صدّه.

غير أن أكثر ما لفت الانتباه في هذا السياق هو انفجار وسائل التواصل الاجتماعي بسيل هائل من التعليقات التي تشكّك في جدية الضربة الإيرانية التي اعتبرتها مجرد “مسرحية عبثية”،

مستدلة على هذا الاستنتاج الغريب بمسألتين، الأولى: قيام إيران بإخطار بعض الدول المجاورة بموعد الهجوم قبل وقوعه باثنتين وسبعين ساعة،

ما يعني أن “إسرائيل” والولايات المتحدة كان لديهما معرفة مسبقة بموعده وشكله قبل وقوعه بوقت كافٍ، والثانية: قيامها بالإفصاح علناً،

حتى من قبل أن تنتهي الضربة، عن نيّتها بالتوقّف عند هذا الحد وإعادة تأكيد التزامها بعدم التصعيد.

لقد بدت لي هذه الضجة أقرب ما تكون إلى حملة ممنهجة، موجّهة للحطّ من مكانة إيران، منها إلى ردّ فعل تلقائي يعكس رؤية الجمهور المتلقّي لحدث على قدر كبير من الأهمية،

بل إنني لا أتجاوز إن قلت إن هذه الضجة بدت لي أشبه بحملة مموّلة تستهدف إعادة إحياء نعرات طائفية لم تيأس أبداً من محاولاتها الرامية

إلى شقّ الصف الإسلامي وتعميق الصراعات بين الشيعة والسنة، والسعي بلا كلل أو ملل لإحلال خطر إيراني مصطنع محل الخطر الصهيوني الحقيقي والمتجذّر في المنطقة منذ عشرات السنين. 

لذا أعتقد أنّ أيّ تقييم موضوعي لما جرى ليلة الأحد الماضي ينبغي أن يستند إلى جملة من الحقائق الواضحة، يمكن إيجاز وعرض أهمها على النحو الآتي:

الحقيقة الأولى: تتعلّق بطبيعة الأهداف التي سعت إيران لتحقيقها من وراء الضربة العسكرية التي قرّرت توجيهها إلى “إسرائيل”. فإيران لم تقصد ممارسة حقها المشروع في الدفاع عن نفسها فحسب،

خصوصاً بعد تعرّض بعثتها الدبلوماسية في دمشق لعدوان إسرائيلي مباشر ومتعمّد، ولم يكن هدفها الأهم إلحاق خسائر بالمدنيين أو بالبني التحتية الاقتصادية في “إسرائيل”،

وهو ما يفسّر تركيز الضربة على أهداف عسكرية بحتة، وإنما سعت في المقام الأول لإظهار قدرتها على الوصول بأدواتها العسكرية إلى أي مكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. 

هي إذاً رسالة ردع تنطوي على محاولة لتغيير قواعد الاشتباك بأكثر من كونها محاولة للانتقام من “إسرائيل” أو للتصعيد معها،

وهي رسالة مفادها أن “الصبر الاستراتيجي” الذي اتسمت به سياسة إيران تجاه “إسرائيل” حتى الآن قد نفد، وأن إيران قرّرت

أن تردّ بنفسها من الآن فصاعداً على أي عدوان إسرائيلي يستهدف النيل من مصالحها في المنطقة أو في أي مكان آخر في العالم.

الحقيقة الثانية: تتعلّق بالحجم الحقيقي لهذه الضربة وما نجم عنها من أضرار مادية أو معنوية بشرية.

فوفقاً للبيانات التي نشرها المعهد الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية، استخدمت إيران في هجومها 170 مسيرة، و120 صاروخاً باليستياً، و30 صاروخ كروز.

وبينما تدّعي هذه البيانات أن جميع المسيّرات وصواريخ كروز دمّرت بالكامل أو أسقطت جميعها خارج المجال الجوي لـ “إسرائيل”، إلا أنها تعترف بأنّ 10 صواريخ باليستية

تمكّنت من اختراق المجال الجوي الإسرائيلي وتسبّبت في “خسائر طفيفة” للبنية التحتية لإحدى القواعد العسكرية، كما تسبّبت في الوقت نفسه في إصابة 32 شخصاً بجروح أو بصدمات نفسية وعصبية. 

كما تشير هذه البيانات إلى أن جملة المتفجّرات التي حملتها هذه المسيّرات والصواريخ بلغت 85 طناً وكلّفت “إسرائيل” أكثر من أربعة مليار ونصف مليار شيكل (نحو 2.1 مليار دولار).

ولأنّ “إسرائيل” اعتادت دوماً على عدم الإفصاح مطلقاً عن حقيقة خسائرها وقت الحرب، يمكن القول بثقة إنّ خسائرها الفعلية أكبر من ذلك بكثير. وتلك كلها دلائل تشير إلى أنه لا يعقل أبداً أن يكون هجوماً بهذا الحجم مجرّد “مسرحية عبثية” كما يدّعي البعض.

الحقيقة الثالثة: تتعلق بالكيفية التي مكّنت “إسرائيل” من التصدّي للضربة الإيرانية. فقد اعترف المتحدّث العسكري باسم “الجيش” رسمياً بأنّ القوات الغربية الموجودة في المنطقة،

خصوصاً الأميركية والبريطانية والفرنسية، ساهمت بشكل حاسم في صد الهجوم الإيراني. 

بل إن البيانات التي نشرها المعهد الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية، والمشار إليها آنفاً، أكدت بكل وضوح أن القوات الأميركية وحدها تمكّنت من إسقاط 70 مسيّرة من جملة المسيّرات البالغ عددها 170 مسيّرة.

وما يثير الذهول في هذا السياق أن دولاً عربية مجاورة لم تكتفِ بفتح مجالها الجوي أمام الطائرات الإسرائيلية لكن جيوشها شاركت بنفسها في التصدّي للمسيّرات والصواريخ الإيرانية. 

وإن دلت هذه المعلومات المؤكّدة على شيء فإنما تدلّ، من ناحية، على أن “إسرائيل” بدت عاجزة عن التصدّي وحدها للهجوم الإيراني، وبالتالي فلولا مساندة دول أخرى لها لكانت خسائرها أكبر بكثير مما لحقها بالفعل، كما تدل، من ناحية أخرى، على وجود حلف عسكري غير معلن للدفاع عن “إسرائيل” تشارك فيه عملياً عدة دول عربية.

وتلك حقيقة مذهلة كشفت عنها الضربة الإيرانية التي أكدت وجود محورين متعارضين في المنطقة هما: محور مقاومة المشروع الصهيوني في المنطقة،

وهو محور تقوده إيران وتشارك فيه الفصائل الفلسطينية المسلحة وحزب الله اللبناني وأنصار الله في اليمن وفصائل عراقية مسلحة، والمحور المساند للمشروع الصهيوني في المنطقة،

وهو محور تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتشارك فيه “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية والدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع الكيان أو تهيّئ نفسها حالياً للقيام بهذا التطبيع.

أخلص مما تقدّم إلى أنّ المغزى الحقيقي لما أقدمت عليه إيران ليلة الأحد الماضي لا ينبغي أن يقاس بحجم ما تسبّب فيه من خسائر لـ “إسرائيل”،

وإنما بنوعية الرسائل التي سعت إيران لتوصيلها إلى مختلف الأطراف المنخرطة في صراعات المنطقة، من ناحية، وبمدى نجاح هذه الرسائل في ترسيخ قواعد جديدة لإدارة تلك الصراعات، من ناحية أخرى.

ولأنّ “إسرائيل”، والتي ترى في إيران تهديداً وجودياً لها، راهنت طويلاً على أن إيران لن تجرؤ مطلقاً على الدخول معها في مواجهة عسكرية مباشرة،

الأمر الذي دفعها لأن تستبيح لنفسها القيام بكلّ ما تراه ضرورياً لمواجهة هذا التهديد، بما في ذلك الاعتداء على بعثاتها الدبلوماسية في الخارج، ويفترض أن تجبرها الضربة العسكرية المباشرة التي تلقّتها من إيران مؤخراً على إعادة حساباتها والانصياع لقواعد اشتباك جديدة تسعى إيران لترسيخها.

غير أنه ليس من المتوقّع أن تنصاع “إسرائيل” لصوت العقل. فلا تزال هذه “الدولة” المارقة، والتي تقودها أكثر الحكومات تطرّفاً، مغترة بقوتها وواثقة من التأييد الغربي غير المشروط لها. 

لذا فالأرجح أن تحاول الردّ على الضربة العسكرية المباشرة التي تلقّتها من إيران، وسواء وقع هذا الردّ أم لم يقع، فمن المؤكّد أن المنطقة دخلت منذ الآن فصاعداً في مرحلة جديدة يتوقّع أن يكون لمحور المقاومة اليد الطولى فيها. 

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى