
️تمرّ الأمم بمحطات حاسمة، تتزاحم عندها الأسئلة المصيرية على مائدة الواقع: هل نحن على أعتاب انفتاح تاريخي، أم على مشارف جدار مسدود؟ في مثل هذه اللحظات، تختلط الحكمة بالحماسة، ويشتبك الحلم بالقلق، ويعلو صوت الدعوة إلى “حلّ من الآخر” يوهم أصحابه أن الطريق يمكن أن يُختصر، بينما التجربة والتاريخ معًا يهمسان بأن الاستعجال قد يكون أسرع طريق نحو الإخفاق.
أحسب أن حالة من اليأس، وربما القنوط، أخذت تفرض ظلالها على المشهد، بعد أن انغلقت آفاق الإصلاح بشقيه الاقتصادي والسياسي، وتراكمت النتائج المؤسفة، وتلوح في الأفق تداعيات أشدّ وطأة. في هذا المناخ، خرجت إلى العلن اجتهادات جادة، وإن كانت مركّبة، من شخصيات أحترمها وأثق في نواياها، وأقدّر إخلاصها في البحث عن مخارج للأزمة. اجتهادات لا أملك يقينًا قاطعًا يؤكدها، ولا حجّة دامغة تنفيها، لكنها – في كل حال – تستحق النقاش بما يليق بقيمتها وبمكانة أصحابها.
بالأمس، وصلتني رسالة خاصة من شخصية مصرية مرموقة، كانت في زمن الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك قريبة من المؤسسة الحاكمة، ولا تزال على صلة بها حتى اليوم. الرسالة كانت مشفوعة برابط لحلقة بعنوان “نقطة ضوء” على قناة الأستاذ المحترم خالد عيسى، نُشرت منذ ساعات على موقع “يوتيوب”:
https://www.youtube.com/live/ZCWf5ct8ghw?si=qPeBHRBdClS9kegJ
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل وصلتني من عدد غير قليل من الأصدقاء على “فيسبوك” روابط لمنشورات لشخصيات عامة مصرية، تمضي في الاتجاه ذاته، أذكر منها على سبيل المثال:
https://www.facebook.com/share/1CpCLZahAf/
في البداية، لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر والتقدير للأستاذ العزيز خالد عيسى على حسن ظنه بي، والشكر ذاته لكل جمهوره من المعلقين، سواء كانوا متفقين معه أو مخالفين في الرأي، فالحوار الصريح هو بوابة الفهم، والاختلاف الهادئ هو الطريق إلى إدراك أعمق.
التعليق
بخبرة ممتدة عبر عقود مع الأنظمة العربية ذات الطابع الاستبدادي، لا أجد في ذاكرتي ما يدفعني إلى تصديق مشهد التسليم الطوعي للسلطة إلى قوى مدنية ديمقراطية حقيقية. وحتى في 11 فبراير 2011، حين أعلن الرئيس مبارك تنحيه، لم يكن الأمر تسليمًا لقوى الثورة، بل انتقالًا إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولأن فرضية “التسليم والتسلّم” التي طرحها الأستاذ خالد تمثل حجر الأساس لعدد من السيناريوهات التي بنى عليها محتواه، فإن من واجبي – ومن واجب كل متابع – التوقف أمام أسانيده، لفهم مدى واقعية هذا الاحتمال أو انتفاء مبرراته، وما يترتب عليه من نتائج.
أشار الأستاذ خالد إلى احتمال سعيي للشراكة مع أحد فصائل الحركة الإسلامية. وأعترف أن هذا القول لا يخلو من نصيب من الحقيقة، لكن مشكلته في الاجتزاء، إذ أن يقيني – منذ ما قبل ثورة يناير – أن مصر تحتاج إلى تحالف وطني واسع يشمل جميع مكونات الجماعة الوطنية، ويعبر عن كافة التوجهات السياسية الكبرى. مثل هذا التحالف قد يمر مرحليًا بتحالفات ثنائية، لكنها ليست بديلًا كافيًا ولا شافيًا عن الإطار الجامع الذي يعكس التنوع المصري ويعزز وحدته.
أما الربط الذي عقده الأستاذ خالد بين الحالة المصرية والحالة السورية، ووضعهما معًا في سياق المشروع والمحور السعودي، باعتبار أنه يتحرك على فراغ خلفه تراجع الدور المصري إقليميًا ودوليًا، فهو طرح يستحق وقفة خاصة. هذا الربط – في تقديري – يحتاج إلى توضيح وتفصيل أوسع، سأحرص على تناوله في مقال لاحق لتقديم رؤية مصرية خالصة للخروج من النفق المظلم، بعيدًا عن التحالفات غير المدروسة التي استنزفت من رصيد مصر وقزمت من دورها.
أوضح للأستاذ خالد، ولكل من يعنيهم الأمر، أنني لست ساعيًا إلى دور “البديل”، ولا مندفعًا الآن لتحمل هذا العبء الكبير، لكنني أضع كل جهدي في المشاركة الإيجابية لدعم أي مسار إصلاحي جاد، من شأنه أن يقود إلى التغيير المستحق. هذا واجب وطني على كل مصري، لأن مصر تستحق ما هو أفضل، وأبقى، وأعدل.
أما عن تفسير الأستاذ خالد لما طرحته من رؤية بشأن التغيير المتوقع خلال التسعة أشهر القادمة، فهو أمر يحتاج إلى الكثير من التفاصيل، وسأشرح ذلك في فيديو خاص سأقوم بنشره خلال الساعات القادمة. ويمكن الاطلاع على نص كلماتي حول هذا الموضوع عبر الرابط التالي:
https://drive.google.com/file/d/11QVuO7h9fqOFrC-9HBpKM148QEc5DdGb/view?usp=sharing
.
وكما قال جمال حمدان: “القضية ليست في أن نغيّر الحاكم، بل في أن نغيّر طريقة الحكم”. إن اللحظة التي نحياها اليوم ليست امتحانًا لشخص أو حزب أو تيار، بل امتحان لإرادة أمة كاملة، وقدرتها على أن تصوغ مستقبلها بعيدًا عن الأوهام السهلة والأحلام المستعجلة. فالتغيير الذي نرجوه ليس قفزة عابرة في ظلام السياسة، بل مسار طويل يحتاج إلى وعي جمعي، وتحالف وطني واسع، وصبر يوازي حجم الحلم. والتاريخ، وإن كان لا يرحم المترددين، فإنه لا يغفر للمستعجلين الذين يظنون أن القفز على المراحل اختصارٌ للزمن، فيما هو في حقيقته اختصار لعمر الوطن نفسه.
مصر، التي علّمت العالم معنى الصمود، لن تستعيد مكانتها إلا حين نتفق جميعًا على كلمة سواء: أن مصر أولًا، وأن المصريين جميعًا شركاء في إنقاذها.