مقالات ورأى

حنان البدري تكتب: كيف تهدم دولة

لم أجد صعوبة في كتابة تقرير يرصد من واشنطن، وعبر المحيط، ما آلت إليه الأمور في مصر والخطر الداهم الذي ترصده أم الدنيا على مدى العقود الثلاث الماضية، كالصعوبة التي وجدتها في كتابة هذا التقرير من حيث كمية المعلومات وتفاصيل هذا المخطط – والذي استدرجت مصر إليه. وهذا ليس كلامي، بل نتيجة لمحصلة كلام كل من تحدثت معهم من أكاديميين وخبراء أمريكيين، منهم التقدمي ومنهم اليميني، ممن كانوا يطلعوني أو يؤكدون لي المعلومة، متباهين بسياسات طوقتنا وحققت نصراً لبلدهم!

لأجد هذا الكم المحزن من الملفات وفيها خيوط حبكة يعجز عن تخيلها أعظم مخرجي هوليود. كم جعلني أجهش بالبكاء بين الفينة والأخرى قبل أن أواصل النبش والتحري. أعلم أنني بهذا التقرير أقرب إلى حد كبير إلى وصف زوجي بأنني كمن يؤذن في مالطا! لذا قررت أن أؤذن في مصر، لعل وعسى!

ولذا أيضًا، فأنا هذه المرة، وبدلاً من نشر تفاصيل هذا “المخطط”، قررت أن أعرضها في شكل اقتراح على المسؤولين فيكِ يا مصر. اقتراح بسيط جدًا، وهو أن تقوم الحكومة بدعوة كبار الخبراء في كافة المجالات إلى مؤتمر بعنوان “كيف تسقط دولة”، نعم، دولة وليس نظاماً، فالفارق كبير، لأن اسقاط نظام وإقامة نظام بديل أسهل وأسرع بكثير من هدم دولة بمؤسساتها ونظمها وبنيتها التحتية وشعبها أيضًا. وهو الهدم أو السقوط الذي يستغرق القيام منه – وليس النهوض – عقودًا طويلة قد تمتد لقرن من الزمن! ساعتها، وعندما يقومون بوضع خطة كهذه، ربما يتمكنوا ساعتها من إدراك حجم المصيبة، وبالتالي كيفية وضع خطة نجاة عملية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وأود بداية أن الفت النظر إلى أن كل البنود الواردة هنا بشأن تلك الخطط، لاسيما ذات الشق الاقتصادي، وهو عمادها لهدم مصر، لم تكن مؤامرة. وأحيلكم هنا لاعترافات جون بيركنز، وهو أحد من يطلق عليهم “قناصة الاقتصاد”، والتي يشرح فيها كيف جند الأمن الأمريكي لاختراق دول بعيدًا عن أي منصب حكومي لاسقاطها اقتصاديًا. وقد سجل اعترافاته تلك في كتاب تعرض للتحسين منعًا لإحراج واشنطن، حمل عنوان “Confessions of an Economic Hit Man”، أي اعترافات قناص اقتصادي، وفيها يشرح بالتفصيل عمله بوكالة الأمن القومي الأمريكي ومهمته في جرجرة الدول النامية نحو مصيدة الاعتماد على البنك الدولي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، و”المعونة”، والمنظمات الأخرى الأجنبية لضمان استمرار تدفق الثروات إلى خزائن الشركات الضخمة وجيوب عدد قليل من العائلات الثرية التي تسيطر على الموارد الطبيعية في العالم.

وشملت أدواتها التقارير المالية الاحتيالية، والانتخابات المزورة، والرشاوى، والابتزاز، والجنس، والقتل. وربما في أعداد قادمة أفصل لكم مضمون هذا الكتاب، وقبل أن أضع أمامكم الصورة كاملة لوضع مصر الحالي، أجد أنه من المهم أن نتذكر سوياً تاريخنا، أو تحديداً نفس تجربة الهدم التي تعرضت لها الدولة المصرية، وذلك مباشرة قبل الاحتلال الإنجليزي، حين تم سلسلت مصر بالديون، ثم القروض، ثم التفريط في قناة السويس قبل الانقضاض عليها. تقريبا نفس السيناريو تاريخ درسناه بالمدارس، لكن لا يبدو أننا استوعبناه!

وعودة لاقتراحي الأساسي، سأضع نفسي مكان هؤلاء، لنتعرف سوياً كيف قاموا بضعف مصر عبر خيوط ممتدة من تل أبيب لواشنطن، ولا مانع من التوقف في المنتصف بعواصم أوروبية، وللأسف في بعض العواصم العربية أيضاً، لخدمة نفس الهدف.”

البداية كانت بالطبع هي اضعاف مصر بضرب اقتصادها تدريجيا وهي الخطوة الاصعب والأطول زمنيا و ابرز محطاتها :

اولا/ تجريف مصر من مصادر دخلها القومي بحيث لا يصل هذا التجريف الِي مستوي الانهيار , المطلوب فقط ان لا يوجد فائض يمكن هذا البلد الهام من التقدم وذلك عن طريق :
– جرجرة مصر لطريق الاستدانة عن طريق إقناع القيادات السياسية و المالية بها بأنها كبلد نامي “متخلف” في حاجة لهذه القروض لتحقيق النمو الاقتصادي و بالتالي فعليه قبول هذه القروض من مؤسسات وبنوك عالمية مثل البنك الدولي و هيئة المعونة الأمريكية. لتتحول البلد وفي غضون سنوات قليلة الِي بلد مثقل بديون لا امل من ان تتمكن من تسديدها وبالتالي يمكن التأكد تماما من انصياع القاهرة لأي اوامر من الخارج اقتصادية كانت أو سياسية

– ثم استخدام الديون والمساعدات في اجبار مصر علي القيام بـخطوت اولها خصخصة القطاع العام مع البدء بقطاعات الصناعات الثقيلة وكانت في مقدمة قائمة المصانع والتي وضعت بعناية شركة المراجل البخارية المصرية و كان استهدافها لأغراض استراتيجية وبطلب اسرائيلي لنسف أي طموحات مصرية في المجال النووي و الصناعات التسليحية وصناعات اخري مساعدة في مجالات البترول والحديد والصلب وكان المطلوب التخلص من أوعية الضغط البخاري ذات الجدار السميك – سمكها يتعدي 6 بوصات

– والتي تمكنت مصر بمساعدة الكتلة الشرقية في الستينيات من امتلاكها كتقنية تمكنها من تنفيذ برنامج نووي وبالتالي كانت شركة المراجل البخارية بمنيل شيحة احدي ركائز الصناعة الوطنية و الأمن القومي المصري التي اسست في يوليو 1962 كأول قلاع مصر الصناعية التي تم التخلص منها بالبيع لشركة عالمية تم الزج بها لتنفيذ ذلك المخطط لتشتري صرحا قيمته وقتها لا تقل عن 3 مليار جنيه بـ 55 مليون جنيه !

وقد اتضح لاحقا ان الشركة الأجنبية استهدفت تصفية شركة المراجل لذا اعادت بيعها ولكن بعد ان أتمت مهمتها في فكفكفة هذا الصرح الاستراتيجي الوطني المصري و بعد تاكدها من تشريد عماله وفنييه للقضاء علي خبرات مصر في هذا المجال لتعيد بيعه لقطاع خاص لا يستثمر فيه سوي قيمة الارض التي عليها و تشغيله في بعض الصناعات عديمة الجدوي الاستراتيجية لحين اغلاقه للابد لذا لا نندهش ابدا حين نجد قلقا امريكيا ظهر مؤخرا من فكرة ضم المراجل البخارية لوزارة الانتاج الحربي حتي بعد تأكدهم من اضعافها وبعد ان طمأنتهم ردود فعل حكوميةمصرية لا نستطيع وصفها سوي بالموالية بالطعن علي احكام قضائية في قضية استرداد رفعها مصريون شرفاء وللعلم الطعن قدمته كل من من حكومة كمال الجنزوي، رئيس الوزراء الأسبق، و كذا حكومة هشام قنديل، رئيس الوزراء السابق- هذا فقط مثال.

– وايضا و في نفس مخطط اضعاف الدخل القومي كانت الخطة الضغط لخفض الضرائب-احد مصادر الدخل الأساسية – لاسيما علي شركات القطاع الخاص والمشاريع الاستثمارية بحجة تشجيع الاستثمار ولاحظوا هنا ان اقتصاديات الولايات المتحدة والغرب تعتمد اساسا علي فرض ضرائب هي في الواقع اضعاف ما يفرض في مصر علي سبيل المثال مع تشجيع أفكار تتحدث عن خصخصة مصلحة الضرائب !

– هذا حدث بالفعل في اواخر فترة حكم مبارك حين خرج البعض ليتحدث عن نيجيريا كمثال ولتظل الضرائب في مصر و للان الاقل علي مستوي العالم .!

– خفض التعريفة الجمركية بشكل عام بما في ذلك السلع التي لها مثيل محلي بحجة كسر الاحتكار
مع – وللمفارقة – انشاء ودعم كيانات و اشخاص تحت مسمي رجال اعمال- لا يوجد في امريكا فعليا هذا المسمي سوي لدي الاشخاص ذوي التعاملات الاقتصادية المحدودة بينما تسيطر الشركات الكبري -هنري فورد ليس رجل اعمال- مع دعم هذه الكيانات والاشخاص وتمكينهم من السيطرة علي رأس المال المحلي في مقابل احتكارهم لأهم السلع الاستراتيجيه و التأكد من تحويل الاقتصاد نحو الاعتماد علي الاستيراد .

– التأكد من انخفاض تعريفة المرور من قناة السويس علي أساس انه مجري مائي دولي .

الدفع بخطط لخصخصة القناة تدريجيا بزعم تشجيع الاستثمار بحيث يتم الامر بشكل يضمن ابعاد راس المال العام والوطني أي المصري فعليا عن التحكم في اقتصاديات قناة السويس والاكتفاء بدور الدولة الأمني المحدود ! – التأكد وبالضغط السياسي من وجود قيادات سياسية ومالية مواليةو مؤمنة بقوانين السوق الحر و يتم تشجيعهم بين الحين والاخر بمختلف السبل حسب توجهاتهم بالجوائز والمناصب الدولية و ترحيب المحافل الدولية بهم أو بالمال .

”هل يذكركم هذا الكلام ببعضهم ؟ ” احدهم كان يتم انتخابه كافضل وزير مالية والاخر كتب في حيثيات تعيينه في منصب دولي براتب يصل لنصف مليون دولار سنويا انجازه العظيم في خصخصة القطاع العام المصري.

-استمرار خطة حرمان مصر من حقها التاريخي في مياة النيل بشجب اتفاقيات تاريخية وتشجيع دول المصب بكل السبل بما فيها التحكم في الساسة المسئولين عن هذا الملف بهدف التحكم في شريان حياة المصريين ثم لاحقا بيع المياة بشروط وهنانذكر القاريء بدور محمود ابو زيد وزير الري الاسبق الذي اهمل ومن جاء بعده فعجلوا من تنفيذ هذا المخطط علي اكمل وجه وبشكل يدعونا لطلب محاسبته بشكل عاجل .

– التحكم في سياسة مصر الزراعية لاسيما المتعلقة بالمحاصيل الاستراتيجية و علي راسها القطن وتحويل مصر لدولة مستوردة لمعظم المحاصيل وهي خطة تبدأ باحلال زراعة محاصيل غير استراتيجية كالفراوله والكنتلوب مع نشر تقاوي معالجة وراثيا وهي تستلزم اعتماد مصر علي استيرادها وللابد بشكل دائم والاخطر التأكد من اعتماد مصر الكامل علي استيراد القمح .

-عرقلة أي خطط حقيقية لتطوير قطاع البترول المصري و اهدار ثروة مصر من البترول والغاز سواء عن طريق بيعها بأثمان بخسة لمشاريع غير اقتصادية – لدينا مشروع منتجات كيماوية في اجمل منطقة سياحية بالعين السخنة شجعت الولايات المتحدة ومازالت انشائها رغم ان انتاج هذه الشركة يركز علي مواد تخلت معظم دول العالم عن تصنيعها لأسباب بيئية وهناك ايضا تشجيع صناعات السيراميك وغيرها من منتجات تستهلك طاقة كبيرة تبيعها الدولة لهم بأسعار بخسة بينما يجري تشجيع الحكومة علي رفع الدعم عن المحروقات التي يستخدمها المواطنون !

أما ثروة مصر البترولية والمعدنية فتم تفتيتها في اطار انشاء شركات قطاع خاص بديلة تستنزف عن طريق دورها كوسيط ثروة مصر البترولية ببيع حقوق الاستكشاف والاستخراج لشركات اجنبية وهذا الامر مازال مستمرا بالمناسبة وحاليا يوجد مايزيد عن 300 شركة من هذا النوع اكثرها مسجل بالخارج .

وهناك ايضا التأكد من عدم حصول مصر علي ثروتها الطبيعية من الغاز وكمثال حالي لذلك تمت الاستعانة بشركة اوروبية للكشف عن حقول غاز مصر بالبحر المتوسط وقد اكتشف الغاز – وهذه معلومة – ولكن لم تبلغ الشركة الحكومة المصرية وغادرت الموقع وبعدها بعدة اشهر انشئت شركة لها مقرات في قبرص واليونان و بشراكة اسرائيلية وبدأت استخراج الغاز علي مقربة من مكان الحفر الذي اتمته الشركة التي استأجرتها مصر وزعمت للمصريين انه لا يوجد غاز! المفارقة هنا ان اسرائيل تستعد لتصدير الغاز فهل تحركت مصر !

بالمناسبة وحسب القانون الدولي فحدود المياة الاقليمية غير الحدود الدولية والقانون الدولي يضمن لنا شراكة في ثروات المياة الدولية المتاخمة لنا .

– السياحة التاكد من استمرار سياحة الدرجة الثالثة فقط الِي مصر و تراجع موقع مصر التي تملك ثلثي اثار العالم سياحيا لابعد من الصدارة ومساهمة تشجيع تمدد القوي الدينية في المجتمع والثقافة المصرية
و الاضطرابات والعشوائية في استمرار هذا التراجع .

– السكان , وهو موضوع كبير لكن الخطة تسير فيه علي مايرام و تضمنت التأكد من تخلي الدولة التدريجي عن دعمها للقطاعات الخدمية في مجالات الصحة و التعليم و الكهرباء والمياه و غيرها من الخدمات العامة .

مع وقف الدولة للإعانات والقيود التجارية و التأكد من وقف أي خطط حكومية لفرض حد اقصي للاجور لموظفيها – لاحظوا هنا ان الحدين الاقصي والادني مطبق بصرامة لدي الحكومة الأمريكية – وذلك بزعم ان الحكومة في حاجة لخبرات نادرة وينبغي منحهم الأجور التي يستحقونها !

وهو ماسيؤدي بالتالي الِي ظهور وتفشي الفساد و العشوائيات و اختفاء الطبقة المتوسطة التي اعتمد ناصر عليها في مشروع النهضة الذي اجهض و تظهر طبقة متميزة لا تتجاوز في النهاية نسبة ال 1/2 في المائة و تظهر العشوائيات التي تمهد لعشوائية الدولة في النهاية مما يضمن مصر العرجاء التي لا تتمكن من النهوض لكنها بمسكنات خارجية يمكن ابقائها علي قيد الحياة !

– ضرب أي طموح للجيش المصري في تملك قوة ردع و استمرار علاقات تعاون عسكري مشترك مع الولايات المتحدة و لكن تشجيع مطالبات داخلية لكسر تمسك القوات المسلحة علي اعتمادها الذاتي في الميزانية والمصروفات و تشجيع المصريين علي التخلي عن التجنيد الاجباري و التأكد من استمرار ارتباط القوات المصرية التسليحي بالولايات المتحدة .

المفارقة هنا هو القلق الأمريكي الغير مسبوق منذ زيارة وزير الدفاع الاخيرة لموسكو وهو مايؤكد هذا التوجه وحيث تعتبر واشنطن ان حصول مصر علي منظومة الدفاع الصاروخي S 300 من موسكو خط احمر اذ ان هذه المنظومة قادرة علي صد مايقرب من 98 % وهو ايضا مايصب في خطط التأكد من طموح مصر بالنسبة لقوة للردع .

وبالمناسبة ايضا فقد سبق للولايات المتحدة استخدام نفس خطة التعامل تلك مع الصين والمعروفة بسياسة اكتفاء جيشها الذاتي بل قيامه بالتصنيع والتصدير للحصول علي النقد الاجنبي اللازم لتصنيعه الحربي وقد فشلت امريكا في مسعاها ذلك بالنسبة للصين .

هذه بعض من تفاصيل كثيرة صادمة ولكنها كافية لمحاولة انقاذ مايمكن انقاذه .. وهو صعب دون محاسبة

المصدر الهيئة الوطنية للإعلام

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى