مقالات ورأى

يحيى حسين عبدالهادي يكتب: بالمصري

منذ فَجْر التاريخ، وأَيَّاً كانت طريقة وصول حاكم مصر إلى عرشها (وراثة، انقلاب، انتخاب، بَيْعَة، ثورة)، ظَلَّ مُبَّرِرُ بقائه في سُدَّةِ الحُكْمِ هو الحِفاظ على شيئين: النيل والوحدة الوطنية .. أَمَّا ثالثهما وهو عدم التفريط في شبرٍ من الأرض فهو من البديهيات المعلومة من الوطنية بالضرورة (لا أتحدث عن الهزيمة والاحتلال فقد حدث ذلك كثيراً مع مصر ومع غيرها .. أتحدث عن التفريط في أرضٍ دون حربٍ).

وكلما داهمَنا النظامُ بسَقْطَةٍ من سقطاته غير المسبوقة في التاريخ، ومع الإحساس بالذهول والعجز، ترتفع أصواتٌ بالسؤال اليائس: كيف سيزول نظامٌ يملك كل أدوات القوة والبطش؟.

حدث هذا عندما تم التفريط في الجزيرتين (دون حربٍ!) في سابقةٍ لم تحدث بامتداد تاريخ مصر الأَزَلِّيِّ.
وتكرر السؤال بعد التوقيع (طواعيةً!) على اتفاقٍ جَعَلَ حصة مصر التاريخية في مياه النيل في مَهَّبِّ الريح.

أَمَّا ثالثةُ الأثافي وآخِر السقطات فكان إنشاءُ ميليشيا عنصرية في بلدٍ لم تَقُمْ فيه حربٌ أهليةٌ واحدةٌ طوال تاريخه المكتوب منذ آلاف السنين .. كانت سياسات (فَرِّقْ تَسُدْ) حِكراً على المحتلين وفشلوا في ذلك .. الجديد أن يبادر نظامٌ مصريٌّ بتغذية الفتنة .. أَمَّا الزَعْمُ بأن النظام برئٌ من إنشاء هذا الكيان القَبَلِي فمردودٌ عليه بما نراه من تأييد كل الإعلام الحكومي والخاص في مصر .. ومعلومٌ أنَّ هذا الإعلامَ ما يلفِظُ من قولٍ إلا لديه (رقيبٌ) عتيد.

يتكرر نفسُ السؤال اليائس الذاهلُ أيضاً مع كل اقتراحٍ بخارطة طريقٍ لخروج مصر من الهُوَّةِ التي انزلَقَتْ إليها (آخرها ورقة الدكتور محمد غنيم) .. ومعظمها اجتهاداتٌ تُراهِنُ على قابلية النظام للإصلاح من الداخل (رأيي الشخصي أن هذا النظامَ صار عَصِّيَاً على الإصلاح ولا مَناصَ من تخريده خُردةً غير قابلةٍ لإعادة التدوير أو التصدير).

وكلما تَكرر السؤال اليائس (كيف سيزول نظامٌ يملك كل أدوات القوة والبطش؟)، تَذَّكَرْتُ إجابة شاعر مصر العظيم أحمد فؤاد نجم في منتصف عام ٢٠٠٦ .. كان عم أحمد قد شَرَّفَني وأكرمني بأن عَزَمَ نفسه والصديق الناشر الوطني محمد هاشم على الغداء في منزلي المتواضع (ولذلك قصةٌ ليس هذا مجال سَرْدِها) ..

بعد الغداء، تَحَّلَقَ حوله عددٌ من الأهل والجيران وسألوه نفس السؤال اليائس، فأجابهم المتفائلُ الكبير (بالمصري) .. ثم شَرَح ما يعنيه، قال: (كُنَّا في حَبْسَة السادات الشهيرة ١٩٨١، وقد بَلَغَ اليأسُ بالبعض مَبْلَغَه، فقلت لهم بل سيأتي الخَلاص، فقالوا “كيف؟” قُلْتُ “بالمصري” ..

بعد شهرٍ قُلتُ لهم أرأيتم هذا المَخرَج الفريدَ الذي لم يخطر ببال أحد ولا يحدث إلا في مصر؟ .. على يد ضابط من جيشه في احتفالية انتصاره) .. ثم أردَفَ عم أحمد (ما يحدث الآن شبيهٌ بذلك .. كُنَّا قد تَرَّبَيْنا في اليسار على أن التغيير لا يأتي إلا على يد العمال والطلبة ..

أَمَّا أن يتقدم القضاة “المحافظون بطبعهم” مسيرة التغيير كما يحدث الآن، فذلك من العجائب التي لا تحدث إلا في مصر) .. ثم خَتَمَ بحكمته (فليقم كلٌّ مِنَّا بواجبه في المقاومة في حدود استطاعته، ولا ينشغل بكيف سيزول نظام مبارك ووريثه .. سيزول بالمصري).

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى