إغلاق قصور الثقافة وبيع المقرات التاريخية يهدد مستقبل الثقافة المصرية بالكامل

أعلنت وزارة الثقافة عن قرار إغلاق حوالي 120 موقعًا من قصور الثقافة المنتشرة على مستوى الجمهورية، وتوزيع العاملين في هذه المواقع على باقي قصور الثقافة التي ما تزال تعمل بشكل فعلي، مما أثار موجة واسعة من الغضب والاستياء داخل الوسط الثقافي وبين المثقفين.
وأوضح القرار أن قصور الثقافة المستأجرة، التي تعتمد بشكل كبير على الإيجارات القديمة المنخفضة والتي تصل إلى 700 جنيه شهريًا، لن يتم تجديد عقودها، واستبدالها بفعاليات مكلفة مثل المسرح المتنقل الذي تبلغ تكلفة اليوم الواحد له 70 ألف جنيه، وهو ما يطرح تساؤلات حادة حول جدوى هذا التحول وهل هو في إطار تنمية الثقافة أم تنمية مصالح شخصية.
أكدت مصادر مطلعة أن أزمة قصور الثقافة لا تنحصر في كثرة العمالة بل تتجاوز ذلك إلى سوء الإدارة والعجز عن ابتكار حلول خلاقة تواكب متطلبات العصر وتعزز الهوية الوطنية، حيث أن ما يعيق التطور هو وجود ممارسات إدارية جامدة تهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية على حساب تطوير الحركة الثقافية والفنية التي يتطلع إليها المجتمع
أشارت المعلومات إلى أن الأزمة الحقيقية ترتبط بالتناقض بين الوظيفة الإدارية الجامدة ومتطلبات الإبداع الفني الذي يجب أن يعكس الهوية الوطنية ويصنع ثقافة متجددة، فغياب الرؤية الواضحة والإبداعية يؤدي إلى ضياع فرص كبيرة للفنانين الحقيقيين ويزيد من تدني الأذواق العامة في المجتمع
أشار مسؤولون في وزارة الثقافة إلى أن إغلاق هذه المواقع جاء نتيجة وجود عمالة زائدة في قصور الثقافة، لكن الخبراء العاملين في القطاع أكدوا أن الحل الصحيح لمشكلة العمالة لا يكون بالإغلاق، بل بإعادة توزيعهم على وزارات أخرى مثل التربية والتعليم والشباب والرياضة، حفاظًا على البنية الثقافية دون هدم ما تم إنجازه من قبل.
وأكدوا أن المشكلة الحقيقية تكمن في سوء الإدارة وعدم وجود رؤية إبداعية حقيقية لتحسين الأداء والارتقاء بالوعي الثقافي لدى المجتمع.
أضافت المصادر أن الأزمة تتجاوز زيادة أو نقصان العمالة لتصل إلى تعارض خطير بين الممارسة الوظيفية الجامدة ومتطلبات الإبداع الفني والثقافي، مما يحول دون ظهور إنتاج ثقافي حقيقي يعكس الهوية الوطنية ويعزز من القوة الناعمة لمصر.
وأوضح الخبراء أن الإدارة الحالية تركز على مصالحها الذاتية، وتتجاهل الطاقات الإبداعية التي يمكن أن تساهم في تطوير الحركة الثقافية، مما يؤدي إلى تراجع واضح في مستوى النشاط الثقافي وانتشار حالة من الإحباط بين الفنانين والموظفين.
لفت العاملون في مجال الثقافة إلى أن إغلاق بيت ثقافة يدفع تكلفة إيجاره الشهري 700 جنيه واستبداله بمسرح متنقل بتكلفة يومية تبلغ 70 ألف جنيه، هو أمر غير مبرر ولا يعكس فهمًا حقيقيًا لقيمة هذه المؤسسات.
وأشاروا إلى أن هذا التوجه يمثل تهديدًا مباشرًا للمراكز الثقافية التي كانت تعد منارات للثقافة والفنون، ولا سيما في المناطق النائية والقُرَى التي تعتمد بشكل كبير على هذه القصور.
سُجّلت صدمة كبيرة في الوسط الثقافي يوم القبض على أحمد صلاح بهجت، رئيس قطاع مكتب وزير الثقافة، الذي كان يشغل منصبه منذ حوالي عامين، حيث لم تُكشف بعد تفاصيل الاتهامات الموجهة إليه، فيما يستمر التحقيق.
ولفت هذا الحدث الانتباه إلى طبيعة العمل في وزارة الثقافة والصراعات التي تدور في كواليسها، خاصة وأن منصب رئيس قطاع مكتب الوزير يعتبر المنصب الثاني في الوزارة من حيث الأهمية، والمسؤول عن تنفيذ قرارات الوزير والتنسيق بين مختلف القطاعات.
هناك تاريخاً طويلاً من الهيمنة الإدارية على وزارة الثقافة، فقد استمر لفترة أكثر من عقدين رئيس قطاع مكتب وزير الثقافة السابق فاروق عبدالسلام في السيطرة على مفاصل الوزارة وكان معروفاً بقوته الإدارية ونفوذه الكبير في اختيار القيادات وصناعة القرار، وهو ما ترك أثراً كبيراً على الأداء الثقافي وإدارة الوزارة، حيث طغى الجانب الإداري على الفني في كثير من الأحيان
تاريخيًا، ارتبط منصب رئيس قطاع مكتب الوزير باسم “فاروق عبدالسلام” الذي حكم الوزارة خلال فترة طويلة من حكم الفنان فاروق حسني، وقد تميز بقوة سيطرته على مفاصل الوزارة، حيث تمكن من اختيار أو إقصاء قيادات الوزارة حسب كفاءتهم، مستفيدًا من مهاراته الإدارية والمالية، وقدرته على التعامل مع المشهد السياسي آنذاك.
وتميز عبدالسلام بأسلوبه الصارم الذي كان يخلق جوًا من الخوف بين الموظفين، ونجح في حل أزمات كبيرة مثل حادثة سرقة لوحة زهرة الخشخاش وحريق مسرح بني سويف، محافظًا على هيبة الوزارة وأجهزة الدولة.
تابع بعده عدد من رؤساء قطاع مكتب الوزير من بينهم اللواء حسن خلاف واللواء أسامة عمران والمهندس محمد أبو سعدة، كل منهم أثر بطريقة ما على أداء الوزارة، إلا أن غياب شخصية قوية وصارمة كعبدالسلام أدى إلى تفكك السلطة المركزية التي كانت تضمن استقرار الوزارة.
أما في عهد الدكتورة إيناس عبد الدايم فقد تغيرت معادلة القوة داخل الوزارة، حيث أصبح منصب رئيس القطاع أقرب إلى دور سكرتير للوزيرة، مع بروز نفوذ المستشار القانوني عصام رفعت الذي بات يتحكم في العديد من القرارات الكبرى.
أشار كثيرون إلى غياب نواب لوزير الثقافة، الأمر الذي كان من الممكن أن يخفف من الاحتكاك بين الجوانب الفنية والإدارية في الوزارة، ويحد من تركيز السلطة في يد رئيس قطاع المكتب الذي ليس دائمًا على دراية كاملة بالقضايا الفنية، مما يؤدي إلى تدخلات إدارية تؤثر سلبًا على سير العمل.
نوهت أصوات ثقافية عديدة إلى أن الوزير الحالي، الدكتور أحمد فؤاد هِنّو، لا يحمل الرؤية الواعية أو الخبرة اللازمة لإدارة وزارة الثقافة في زمن تحكمه التحديات الكبرى.
وأكدوا أن هنو، القادم من الحقل الأكاديمي، لم يحقق إنجازات ثقافية حقيقية، على عكس من سبقوه مثل الفنان فاروق حسني، الذي ترك بصمات لا تمحى في تاريخ الوزارة.
وأوضحوا أن هنو يركز على “الاستثمار الثقافي” بشكل مبالغ فيه، متجاهلاً أهمية الدور المجتمعي للوزارة، ويعمد إلى تقليص دور قصور الثقافة، وهو ما ينذر بتدمير مؤسسة كانت تعد رمزا للهوية والذاكرة الوطنية.
أكد الخبراء أن سياسات الوزير تهدف إلى تفكيك البنية الثقافية لصالح حسابات مالية ضيقة، مما أدى إلى خفض الموازنات، إغلاق مراكز ثقافية، وبيع مقرات تاريخية، وهو ما يهدد بانهيار الحركة الثقافية بشكل كامل، وينذر بتراجع الوعي الثقافي لدى الأجيال القادمة.
وأوضحوا أن هذه السياسات ستؤدي لا محالة إلى تفاقم الجهل الثقافي وانتشار جرائم اجتماعية مرتبطة بفقدان الوعي.
أضافت التقارير أن مسؤولين يبذلون جهودًا كبيرة للحفاظ على بيوت الثقافة التابعة لهم، ويعتبرونها جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع، في حين يبدو أن الوزارة على رأسها الوزير الحالي تبتعد كل البعد عن فهم هذه الأهمية، ولا تقدم دعمًا حقيقيًا لحماية هذه المؤسسات. ولفتت إلى أن ذلك يعكس فجوة حقيقية بين الإدارة المركزية والواقع الثقافي على الأرض.
أوضح العديد من العاملين في القطاع أن هذه السياسات هي انعكاس لغياب رؤية متكاملة تسعى لحماية الثقافة وتعزيزها، وتحويلها إلى أداة حقيقية للنهوض بالوعي الاجتماعي والهوية الوطنية، بدلاً من اعتبارها مجرد عنصر اقتصادي يتم تقييمه بأرقام الأرباح والخسائر. وشددوا على أن الثقافة ليست سلعة يمكن بيعها أو إغلاقها بمجرد عدم تحقيق أرباح فورية.
أوضح التقرير أن حل الأزمة لا يكمن في تقليص الموارد أو إغلاق المواقع، بل في إعادة النظر في طرق الإدارة وتبني أساليب حديثة تدمج بين الوظيفة الإدارية والإبداع الفني، مع ضرورة إعطاء مساحة أكبر للفنانين والمثقفين الحقيقيين لتطوير المشروعات الثقافية بما يتناسب مع التطورات العالمية ويعكس التراث المصري الغني
أشار التقرير إلى أن هناك حاجة ماسة لتوفير رؤية ثقافية واضحة تدمج بين المكونات البشرية والبيئية، وتحافظ على القيم الثقافية وتقاوم تدني الأذواق، مع ضرورة إحداث حالة ثقافية متصلة ومتجددة، تضيء المشهد الثقافي في مصر بشكل يعيد له مكانته ومكانة قصور الثقافة كمنارات فكرية وحضارية
أكد التقرير أن استمرار السياسات الحالية في إغلاق مواقع قصور الثقافة وبيع بعضها تحت مسميات استثمارية خاطئة يهدد ليس فقط المشهد الثقافي بل يضرب الهوية الوطنية ويجعل الثقافة حكراً على طبقات محدودة، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم الفجوة بين الأجيال ويزيد من تفشي الجهل والجهالة الثقافية في الريف والمناطق النائية
أكدت الأحداث الأخيرة أن ما تشهده الوزارة من صراعات إدارية، وانقسامات بين الحرس القديم والجديد، والقصور في القيادة، يعكس حالة من الضعف المؤسساتي، تهدد مصير الثقافة المصرية ومستقبلها، خصوصًا في ظل غياب دعم حقيقي للفنانين والموظفين، وتراجع في الاستثمار في البنية التحتية الثقافية.
اختتمت الأحداث بتساؤلات مهمة حول مستقبل وزارة الثقافة، وما إذا كان سيتم تعيين نواب للوزير، أو إعادة هيكلة الوزارة بطريقة تضمن استقلالية القرار الثقافي، وفصل الجانب الإداري عن الفني، وحماية المؤسسة من التدخلات السياسية والإدارية الضارة.
يظل السؤال الأكبر: هل ستتمكن الثقافة المصرية من النجاة من سياسات التدمير المتعمد، أم أننا على أعتاب خسارة جسيمة في الهوية الثقافية، بما يحمله ذلك من انعكاسات خطيرة على المجتمع المصري بأكمله؟
لفت التقرير إلى أن الثقافة المصرية بحاجة إلى إدارة محترفة تستوعب قيمتها وأهميتها في بناء المجتمع، مع ضرورة وقف نزيف بيع وتأجير قصور الثقافة التي تعد ملكاً للشعب، والعمل على تطويرها من خلال فرق متخصصة تضمن عائدًا ثقافياً ومادياً مستداماً يخدم الوطن ويعزز هويته
أضاف التقرير أن هذه الأزمة تستوجب تحركاً عاجلاً من كافة الأطراف الثقافية والمجتمعية لمواجهة هذا التحدي الخطير الذي يهدد موروثاً ثقافياً عمره عقود، ويستوجب ضرورة مراجعة شاملة لسياسات وزارة الثقافة ومراجعة أداء قياداتها بما يضمن استعادة الحركة الثقافية لمكانتها وعودة قصور الثقافة إلى دورها الريادي
ختم التقرير بالتأكيد على أن الإهمال والإدارة السيئة لقضايا الثقافة في مصر يؤدي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد، وستدفع البلاد ثمنها أجيال مقبلة عبر فقدان جزء كبير من هويتها وتراثها الثقافي، وأن اللحظة الراهنة تمثل مفترق طرق حاسم بين استمرار التدهور الثقافي أو الانتصار لهوية غنية ومستقبل مشرق.