مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : حسام بدراوي. بلاغة السكوت وشجاعة المواجهة (١٣)

عرفت الدكتور حسام بدراوي أول مرة في عام 1995، عندما كان مرشحًا مستقلًا في دائرة قصر النيل، بينما كنت أنا نائبًا عن دائرة باب الشعرية والموسكي بالقاهرة. كان من سوء حظه أن يواجه في تلك المعركة الانتخابية الأستاذ الراحل ياسين سراج الدين، وكان النظام بكل مكوناته وأجهزته يرغب في نجاح مرشحه، لا في نجاح بدراوي. أشهد أن المعركة لم تكن عادلة ولا نزيهة، وأن سقوط حسام لم يكن هزيمة انتخابية بقدر ما كان قرارًا فوقيًا أمنيًا سياسيًا.

أذكر أنه في غضون تلك الانتخابات أو بعدها مباشرة، التقينا في قناة أبوظبي — أو دبي التي بدأت بثها الأول آنذاك

— في لقاء أجراه الزميل طارق الشامي قبل انتقاله إلى قناة الحرة لاحقًا. وبين الفواصل دار حوار خارج البث عن حجم التزوير الذي واجهه بدراوي، وكنت شاهدًا على بعضه ومؤكدًا لما قال. لكن المفاجأة أن خطأً فنيًا جعل ما دار بين الفاصل يظهر على الهواء مباشرة، لتصبح شهادتنا معًا علنًا في لحظة لم يتوقعها أحد.

بعد هذا اللقاء الشهير، كنت أبدأ مشروع تأسيس حزب جديد، حمل في بدايته اسم “المستقبل”.

كان د. حسام أحد المتحمسين للفكرة في البداية، قبل أن يختار، مع آخرين مثل محمود محيي الدين وطلعت القواس، الانخراط في فكرة الإصلاح من الداخل، عبر الانضمام إلى لجنة السياسات بالحزب الوطني، حيث انفرقت بنا الطرق.

رغم اختلاف المواقع الحزبية، ظلّ هناك تقاطع في الأفكار الليبرالية والمواقف العامة.

وقد أثّرت علاقة بدراوي القوية بالصديق منير فخري عبد النور، زميلنا في الوفد، على طبيعة علاقتي به، إذ تباعدت مواقفنا الحزبية دون أن تقطع الخيط الإنساني والفكري الذي ظل قائمًا.

تعرض د. حسام لكثير من الظلم والمظالم، أولها إسقاطه المتعمد في انتخابات 1995. وآخرها ما جرى حين تولى موقع الأمين العام للحزب الوطني بعد ثورة يناير المجيدة، ليبقى في موقعه ساعات محدودة فقط، دون أن تتاح له فرصة تقديم نفسه كما أعرفه وأثق فيه.

ظُلم أيضًا حين لم يُمنح المنصب الذي كان جديرًا به: وزير التعليم. كان صاحب رؤية واضحة ومشروع إصلاحي، يؤهله أكثر من غيره لهذا الموقع. وظُلم حين حُسب على الثورة المضادة بينما كان يتحدث بلسان الإصلاح. وظُلم حين حُسب على الثورة من قِبل خصومه في النظام. بقي في المنطقة الرمادية التي لم تنصفه لا هذه الجهة ولا تلك.

وحين جاوز السبعين، بدا وكأنه قرر أن يفتح أبواب الصمت التي ظل مغلقًا عليها طويلًا. لقاءاته الأخيرة، مع برامج البي بي سي المتألقة خاصة لقاءاته الأخيرة في برنامج بتوقيت مصر تقديم الإعلامية نسمة السعيد والذي ترأس تحريره الرائعة صفاء فيصل، كانت هذه اللقاءات نقلة كبيرة في الصورة الذهنية الظالمة عن الدكتور حسام بدراوي.

وكذلك مقالاته الأكثر صراحة، حملت روحًا جديدة. ومن بين أبرز ما كتب مقاله عن بلاغة السكوت وخيانة الصمت.

قرأتُ مقاله ذاك بتمعن. كان نصًا عميقًا، ثريًا، يتساءل متى يكون الصمت حكمة، ومتى ينقلب إلى خيانة. استوقفني صدوره عن رجلٍ خبر السياسة والفكر والإعلام، يعرف كيف يزن الكلمة في وطن ضاق صدره بالكلمات.

لفتني قوله إن الصمت درجات وألوان، ليس بالضرورة أن يكون عجزًا، بل قد يُقرأ خيارًا حكيمًا في مواجهة جلبة بلا نهاية. نعم، الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام. لكنني أختلف معه حين يُستدعى الصمت أمام المواقف الوطنية الكبرى. فالصمت أمام الظلم تواطؤ، وأمام الاستبداد خيانة للذات قبل أن تكون خيانة للوطن.

حديثه عن صمت الوجوه كان صادمًا وصادقًا. الوجوه الحاضرة بأجسادها، الغائبة بأرواحها، تلك التي تكتفي بالابتسام في حضرة الاستبداد، وكأنها تؤدي دورًا في مسرحية بائسة.

أما صمت الجموع، فقد كان وصفه الأقرب لجرحنا الجمعي. فالشعوب التي تتحول إلى كتلة صامتة لا تعني بالضرورة رضاها، بل قد تكون مختنقة بالخوف والقهر. هنا يصبح الصمت الجمعي أخطر أشكال الصمت، لأنه يقتل الأمل ويصادر الحلم.

أوافقه على التمييز بين صمت الحكمة وصمت الجبن. الأول اختيار واعٍ ومسؤول، والثاني هروب واستسلام. لكن الخوف كل الخوف أن يتحول الصمت إلى منهج في إدارة الدولة. فإذا صمت البرلمان، وصمتت النخب، وصمتت المنابر، صار الكلام جريمة، وصار الوطن كله صوتًا واحدًا، لا يعترف بتعدد ولا يحتمل اختلافًا.

في النهاية، لا يسعني إلا أن أحيي صديقي القديم الدكتور حسام بدراوي على شجاعته في طرق أبواب يعرف ضيقها. قد أختلف معه في بعض تبريرات الصمت، لكنني لا أشك في صدقه، ولا في محاولته أن يقول ما يستطيع قوله تحت سقف منخفض حتى الاختناق.

يظل بدراوي شاهدًا على زمن، وصوتًا يحاول أن يلمّح حين لا يُسمح له أن يصرّح. وتظل شهادته شهادةً له، لا عليه.

أكتب عنه اليوم لا لأنصفه من ظلم الآخرين فقط، بل لأنصفه من ظلم الصمت، ولأقول إن صوته، حتى حين يتهامس، يظل أقوى من كل ضجيج زائف.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى