
“المكاسب والمخاطر والتحديات بالنسبة للقضية الفلسطينية”
اتفاق أبراهام الذي أُعلن عام 2020 شكّل تحوّلًا جذريًا في خريطة العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل، إذ انتقل من مبدأ “الأرض مقابل السلام” إلى “السلام مقابل المصالح”، ليصبح نموذجًا للتطبيع المجاني تحت الرعاية الأمريكية.
ورغم أنه جاء في لحظة إقليمية مشحونة بالخوف من إيران، وبالضغوط الاقتصادية والسياسية، فقد فتح الباب أمام موجة جديدة من الاعتراف العلني بإسرائيل، كان من أبرز أطرافها الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، مع سعيٍ أمريكي لضمّ السعودية ودولٍ أخرى إلى هذا المسار.
تنوّعت دوافع الدول التي التحقت أو اقتربت من التطبيع بين حساباتٍ أمنية واقتصادية وسياسية. بعض الأنظمة رأت فيه وسيلة لحماية نفسها عبر المظلة الأمريكية والإسرائيلية ضد “الخطر الإيراني”، وبعضها اعتبره مدخلًا للاستثمارات والتكنولوجيا والتسهيلات الغربية، فيما استعمله آخرون بوصفه ورقة لتحسين الصورة في الخارج وتخفيف العزلة الداخلية.
لكن هذه المكاسب المحدودة تبقى شكلية ومؤقتة، لأنها لم تغيّر في موقع تلك الدول في منظومة التبعية الاقتصادية، ولم تُعزّز قدرتها الذاتية على التنمية أو الحماية، بل زادت من ارتهانها السياسي للغرب، وربطت استقرارها بموقف واشنطن وتل أبيب.
في المقابل، كشفت تجربة السنوات الخمس الماضية أن التطبيع لم يُقرّب السلام، ولم يُنهِ الاحتلال، ولم يُحسّن أوضاع الفلسطينيين. بل تحوّل إلى غطاءٍ لتوسّع الاستيطان، وتطبيعٍ ثقافي واقتصادي يُراد به نزع الحسّ المقاوم من الوعي العربي والإسلامي.
فقد استغلّت إسرائيل علاقاتها الجديدة لتوسيع نفوذها في إفريقيا والخليج والبحر الأحمر، ولبناء تحالفات أمنية واستخباراتية تُحاصر المقاومة، وتُسهم في تصفية البعد الديني والسياسي للقضية الفلسطينية.
بعد هجوم 7 أكتوبر 2023، تهاوت الصورة التي بنتها إسرائيل عن جيشها الذي لا يُقهر، وظهر ضعفها البنيوي أمام مقاومة محدودة الموارد. ورغم الدعم الغربي الهائل، فإنها لم تستطع حسم المعركة أو تحقيق أهدافها، ما أعاد النقاش حول جدوى الرهان عليها كقوةٍ إقليمية “ضامنة للاستقرار”.
في الوقت ذاته، برزت إيران ومحورها كقوة ردع حقيقية، قادرة على تهديد إسرائيل من عدة جبهات، وبدأت دول عربية كالسعودية والإمارات ومصر وقطر وتركيا تُعيد تقييم علاقاتها مع طهران، في مسارٍ يُضعف الأساس الذي بُني عليه اتفاق أبراهام.
كما اشتعل الرأي العام العربي والإسلامي بعد مجازر غزة، وأصبح التطبيع عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على الأنظمة التي اندفعت إليه، بعد أن شاهدت الشعوب مشاهد الإبادة الحيّة على الشاشات.
أما المخاطر الاستراتيجية للتطبيع فتتمثل في ضياع مركزية فلسطين، وتفكك الموقف الإسلامي الجماعي، ومنح الاحتلال شرعية ضمنية للبقاء والتوسع، وإدخال إسرائيل في صميم الاقتصاد العربي والتقنيات الحيوية، بما يسمح لها بالتغلغل والتجسس والتحكم في الأسواق.
والأخطر أن التطبيع يُحوِّل الاحتلال من عدوٍ إلى شريكٍ في الوعي الرسمي، ويُربّي أجيالًا جديدة على قبول الظلم باسم التعاون والسلام، بينما تستمر آلة القتل والحصار والاستيطان بلا توقف.
شرعًا وسياسةً، لا يجوز التطبيع مع عدوٍ يحتل أرضًا ويقتل شعبًا ويعتدي على المقدسات، إلا في إطار حلٍّ عادل يُنهي الاحتلال ويعيد الحقوق. وأي علاقةٍ تتجاهل هذه الشروط هي تخلٍّ عن المبدأ، وخيانةٌ للأمانة التي حملتها الأمة تجاه القدس وفلسطين.
والتاريخ يثبت أن الشعوب لا تنسى، وأن الوعي الجمعي للأمة الإسلامية لا يقبل تسويةً مع الباطل مهما غُلّفت بالمصالح والمشروعات الاقتصادية.
“هل سيتراجع العرب أم سيستمرون في التطبيع؟”
المشهد اليوم يشير إلى توازنٍ جديد: فالقادة المطبّعون لا يستطيعون التراجع العلني بسهولة، لكنهم أيضًا لم يعودوا قادرين على التقدّم أكثر في ظلّ الغضب الشعبي العارم، والتغير في موازين القوى بعد فشل إسرائيل في غزة وصعود محور المقاومة.
بعض الأنظمة ستُجمّد خطوات التطبيع مؤقتًا وتُبقي الاتصالات في حدودٍ ضيقة، تجنبًا للإحراج الداخلي. وبعضها سيحاول المناورة بالقول إن “التطبيع وسيلة للسلام” مع تلطيف الخطاب دون انسحاب فعلي.
لكن الاتجاه العام على المدى المتوسط يميل إلى الجمود أو التراجع النسبي، لا إلى توسعة التطبيع كما أرادت واشنطن وتل أبيب، لأن الحرب في غزة غيّرت معادلة الإدراك: إسرائيل لم تعد تُرى كدولة قوية وواعية، بل ككيانٍ عدوانيٍ مأزومٍ يعتمد على الخارج.
إن استمرار المجازر، وصمود الفلسطينيين، وتبدّل التحالفات الإقليمية، كلّها عوامل تُرجّح أن المرحلة المقبلة ستشهد تباطؤًا في مسار التطبيع، وربما مراجعة هادئة له في ضوء تصاعد الوعي الشعبي وتبدّل المصالح الدولية.
فالتاريخ في هذه المنطقة لا يُكتَب بالاتفاقات الورقية، بل بموازين العدل والكرامة، وبقدر ما تبقى فلسطين حيّة في ضمير الأمة، سيبقى التطبيع مشروعًا ناقص الشرعية، مهدّدًا بالانهيار عند أول اختبار.







