
قديما قال رئيس الوزراء الإنجليزي وثعلب السياسة في الحرب العالمية الثانية، “ونستون تشرشل”: “إن الثبات على الرأي فضيلة، لكنه فضيلة العقول الصغيرة”..عبارة تشير إلى أن المراجعات الفكرية وإعادة النظر في السلوك والمواقف هي روح العمل السياسي وسر ديمومته وبقاء أثره، فلا حظ لإنسان وقف عند حقبة زمنية بعينها يبكي ويتحسر على ما فقده، بدلا من التفتيش عن حلول وعقد تحالفات وإبرام صفقات والدمج بين الخيارات، لربما وجد لنفسه موضع قدم في المستقبل.
ومع كل مبادرة وطنية من أحزاب سياسية أو شخصيات عامة تهدف إلى محاولة بناء جسر تواصل وتفاهم مع الدولة المصرية من أجل إحداث انفراجة في كثير من الملفات ذات الصلة بالمعارضة المصرية في الخارج، نجد من يرمى هؤلاء الشخصيات أو تلك الأحزاب بسهام من نار، وكيل الشتائم والاتهام بالخيانة بألسنة حِداد كأنها مبارزة، الغلبة فيها للأطول لسانا، ولا أدري متى يغلب على هؤلاء صوت العقل وروح الحكمة في التعامل مع الأزمات والسعي للتخفيف من قسوة الظروف الإنسانية التى يعيشها البعض في مصر ممن ينتسبون إليهم فكرا وجماعة.
يُخطئ الفاعل السياسي حين يُسيء فهم تدافع الصراع عبر رؤى ضيقة، والفشل في تقدير حجم اللاعبين، ما يدفعه إلى سلك مسار سياسي خاطئ، وتبنّي مواقف صلبة لا تلين، وامتلاك معطيات غير متكافئة في التعامل مع المشهد، فيظن أن صراعه مع السلطة الغالبة تنافسي أو تساومي في حين أن صراعه معها صفري بل عدمي، خلقه بضعفه الاستراتيجي ودعاياه السلبية والوقوف على أطلال الماضي يبكي ويحشد لمظلوميته، وعدم انطلاقه سياسيا من الواقع الذي يعيشه، وسرعان ما يصطدم هذا الفاعل السياسي بتلك الحقيقة في ملعب التدافع حين تُكشف عوراته، ويخفق في ترجيح كفته في ميزان المصالح وتَقاسم النفوذ، فلا يجد لنفسه مكانا على الطاولة، لعجزه عن فرض نفسه في الميدان، وتلك إحدى الذرائع التي يُقدمها السياسي المتواضع فكرا وأداءً للسلطة لإبعاده.
فالأنظمة السياسية لا تريد معارضة محدودة الذكاء، لا تعرف ماذا تريد، سهلة الاستقطاب الخارجي، تُستمال عاطفيا وتدور في فلك المصالح الضيقة والخطابات العنترية الجوفاء، بل تريد معارضة ذكية مرنة، تُجيد مهارة اللعب السياسي، وتُتقن لغة التفاوض، وتُجيد فن التنازلات المتبادلة، فلا تَحسر نفسها وراء جدران الصراعات الصفرية، ولا تدفع النظام السياسي مضطرا باتباع أساليب القسوة والإقصاء للحفاظ على استقرار الدولة من وجهة نظره.
فأي نظام سياسي مهما كنت مختلفا معه وبلغت كراهيتك له، يظل جزءا من المشهد ولا مفر من الحوار معه، ومحاولة احتوائه، فلا يوجد في السياسة “أريد كل شيء أو لا شيء” أو” لنا الصدر دون العالمين أو القبر” متذرعا بأخطاء السلطة كمبرر يدفعه بطلب المستحيل في واقع إقليمي ودولي لا يملك من مقوماته شيء، بل هناك توازن واعتدال وخطاب سياسي منضبط، يُهدئ ولا يؤجج، يحترم ولا يهين، لا يُسيء للمجموع بسبب خطأ عابر أو سياسة فردية، وتلك آفة بعض من يُطلقون على أنفسهم معارضة سياسية، وتتقدمها شخصيات تُجيد فن “التنويم السياسي” للضحك على أتباعهم بأن المستقبل لهم، وهم عاجزون حتى عن فرض حضورهم السياسي في الحاضر.
وما أحوج أوطاننا في تلك الأوقات المزمنة والأيام العصيبة إلى نسيج اجتماعي متماسك، وصياغة رؤي سياسية منفتحة على الآخر تُصوّب الخطأ وتدفع بالصواب وتستفيد منه وتفسح المجال للمشاركة السياسية الواعية وتُقدم المصلحة العامة على الخاصة، والتخلي عن الطموح الشخصي في سبيل رفعة الوطن والدفاع عن أمنه القومي في ركب حضاري مفعم بالوطنية والإيثار، وتأخذ كل جماعة سياسية ما يدفع بالوطن إلى الأمام، خاصة وأن الواقع الإقليمي لا يبشر بخير أبدا.
في الأدبيات المهتمة بمسائل النزاع والسلام في العالم، تُعرّف المصالحة الوطنية بأنها سيرورة من الوفاق وطمأنة الرأي العام في أمة أو بلد ما، بعد حدث أليم يكون قد أصاب تاريخها الحديث، وبالتالي يأمن الجميع ضمن إطار من العيش المشترك في كنف الحرية والكرامة الإنسانية بعيدا عن الاستقطاب والمتاجرة، ولنا في التجربة الجزائرية نموذجا من الوفاق الوطني البناء.
إننا نقتل أنفسنا عندما تضيق خياراتنا في الحياة، فمهما بلغ بك الاجتهاد من آراء، فلا يعني أنها تكتسب مشروعية الصواب المطلق، إلا في العقل الدوغمائي أسير حقب زمنية غابرة وتحيزات وانطباعات ذهنية مسبقة حول شخص ما أو قضية، تموت العقول عندما تفقد لياقتها ومرونتها في التعاطي مع المستجدات وروح المراجعات حول ما تؤمن به وتناضل من أجله، كبعض الزواحف التى تُبدّل جلودها للتكيف مع البيئة لاستعادة خفتها من دون الإضرار بأجسادها وطبيعة حركتها، وفي الغالب يتقوقع هؤلاء في بوتقة الماضي لا يخرجون منها، لا ترى أعينهم تحولات الحاضر ولا عتباب المستقبل، فتضيع عليهم الفرص ويدخلون ذمة التاريخ وهم أحياء.
إن المتغيرات هى الشيء الوحيد الثابت في السياسة وفي الحياة بشكل عام، ومن لا يدرك تلك الحقيقة عاش مفعولا به وتحول إلى حقل تجارب لخصومه، خاصة لو كانت كل أدواته مستعارة ليست من صنع نفسه، فما أسهل أن تتقبّل وضعك الراهن المتبلّد على أن تبادر بتغييره فيستدرجك الجمود إلى أن يجرفك طوفان التحولات نحو مصارف النسيان، ويحضرني هنا قصة رمزية من الأدب الروسي بين نملة وصرصار تكشف مستقبل من لا ينهض ويستغل فرص الحاضر في زمن الوفرة للنجاة في زمن الجفاف.
والقصة تقول:
“إن نملة جمعت في الصيف ما تحتاجه من القمح لتدخره وقت الشتاء، وحين جاء فصل الشتاء مر عليها صرصار كان جائعا، فطلب منها بعض الطعام، فقالت له: لمَ لم تجمع شيئا في الصيف يا ترى؟ أجاب الصرصور: لم يكن لدي متسع من الوقت: كنت أغني، ضحكت النملة وقالت: بما أنك غنيّت صيفا فارقص شتاءً”، فلا مفر من استغلال الفرص والتعاطي مع أى مبادرات وطنية اليوم، كى لا تجدون أنفسكم ترقصون من ألم الندم غدا.