مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: في ذكرى عيد العمال .. نضال لا يموت وصوت لا ينطفئ

كل عام، وفي الأول من مايو، يحيي العالم ذكرى عيد العمال، ذلك اليوم الذي لا يتوقف فيه صوت الاحتجاج عن شحذ الهمم، وتُذكّر فيه الأجيال الجديدة بمعنى العدالة والعمل الكريم.

هو اليوم الذي تلتقي فيه كل الجهود المبعثرة للعاملين حول العالم، ويصبح فيه نضالهم المشترك أكثر من مجرد مطالبات اقتصادية، بل موقفاً إنسانياً يقف في وجه الظلم والاستغلال.

لم يكن عيد العمال مجرد يوم تقليدي في التقويم؛ بل هو تاريخ طويل من التضحيات، عَبَرَ البحار والقارات، وجعل من الكفاح العمالي شعلة لا تنطفئ.

اليوم، ونحن نحتفل به، لا بد لنا من أن نعيد قراءة هذا التاريخ، ليس فقط للاحتفاء بالإنجازات التي تحققت، بل لتذكير أنفسنا أننا لم نصل بعد إلى الهدف المنشود .. في ذكرياته هذه، يظل عيد العمال، بالنسبة لي، رمزاً حياً لروح التمرد ضد الاستغلال، وصوتاً مدوياً لا يُسكت.

يبدأ تاريخ الحركة العمالية من البعيد، تحديداً في أستراليا عام 1856، عندما نظم العمال في مدينة ملبورن أول احتجاج من نوعه، مطالبين بتحديد ساعات العمل اليومية إلى ثماني ساعات.

كان هذا التحرك بداية لثورة حقيقية في الفهم البشري لقيمة العمل .. كانت الساعة أداة لا تقدر بثمن، ليس فقط للربح المادي، بل للحفاظ على كرامة الإنسان وصحته.

أما في شيكاغو، حيث انطلقت الشرارة الكبرى في 1886، فقد خرج مئات الآلاف من العمال للاحتجاج ضد ساعات العمل الطويلة التي كانت تسرق حياتهم.

كان شعارهم بسيطاً لكنه عميق: “ثماني ساعات للعمل، وثماني ساعات للراحة، وثماني ساعات للنوم”. لكن الإجابة التي تلقتها الحركة كانت عنفاً. قُتل العشرات في ساحة هايماركت، وبالرغم من ذلك، لم يُسكت الصوت العمالي.

ما يميز عيد العمال هو تلك القوة الجماعية التي تمنحها الاحتجاجات العمالية للعمال في مواجهة آلة النظام. إنها لحظة هائلة من التوحد بين شرائح المجتمع، التي تتجاوز الفروق الطبقية والجغرافية، وتصل إلى عمق الإنسانية.

فكلما تذكرت تلك اللحظات القاسية في تاريخ الحركة العمالية، شعرت أن النضال من أجل العدالة والمساواة هو نضال لا ينتهي.

في كل عام، يتحول هذا اليوم إلى احتفال عالمي لا مجرد ذكرى تاريخية .. عيد العمال هو يوم للنضال المستمر، يوم يشهد فيه العالم على الإصرار، ذلك الإصرار الذي بدأ في أستراليا وانتقل إلى شيكاغو، ثم إلى كل زاوية من زوايا العالم، ليُصبح رمزًا للحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.

ومع مرور الزمن، تغيرت الاحتفالات بهذا اليوم حول العالم، ولكن بقيت المعركة واحدة .. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تم تحديد الأول من سبتمبر كعيد رسمي في عام 1894، ولكن لا يزال الأول من مايو يحمل في طياته ذكرى القمع الدموي في هايماركت.

في دول أخرى، أصبح عيد العمال عطلة رسمية تُحتفل بها الجماهير، مثلما يحدث في روسيا، ألمانيا، والبرازيل.

وفي بعض الدول مثل مصر والجزائر، يتحول الأول من مايو إلى مهرجان جماهيري تعبيرًا عن التفاف الشعب حول قضايا العمل وحقوق العمال.

وفي بعض الحالات، رغم التقدم الذي أحرزته بعض الأمم، نرى أن هنالك بلاداً لا تزال تقاوم هذا اليوم إما خوفاً من تحريك المياه الراكدة أو تقاعساً عن الاعتراف بقيمة النضال العمالي.

ما يؤلم في هذه الذكرى هو الفجوة التي ما تزال قائمة بين قوى العمل الحقيقية وواقعها في الكثير من الدول.

قد تكون هناك تشريعات تحترم حقوق العمال، لكننا نجد أن هذه الحقوق في كثير من الأحيان لا تنفذ، بينما يبقى العامل أسير ظروفه القاسية.

فليس كافياً أن نتحدث عن حقوق العمال في قاعات المؤتمرات أو على الورق، بل يجب أن تتحول هذه الحقوق إلى واقع ملموس يشعر به العامل في كل لحظة من حياته.

إن النضال الحقيقي لا ينتهي بمجرد إصدار القوانين، بل يتمثل في قدرتنا على تطبيق هذه القوانين بنزاهة وعدالة، لضمان أن كل عامل، أينما كان، يحصل على حقه في الأجر الكريم، في ظروف عمل آمنة، وفي حياة كريمة.

مما يثير الدهشة هو أن الاحتفالات بعيد العمال التي كانت في الماضي تُعبّر عن احتجاجات قوية ضد النظام الرأسمالي أصبحت، في بعض البلدان، مجرد طقوس سنوية من الاحتفالات التي تفتقر إلى الرسالة التي كان يحملها هذا اليوم في بداياته.

ففي بعض الدول الغربية، أصبح اليوم مجرد إجازة صيفية، تحتفل فيه العائلات وتتنوع المظاهر الاحتفالية بين الحفلات والعروض الرياضية.

على الرغم من أن هذا يشير إلى تحول اجتماعي إيجابي، فإنه يعكس أيضًا نوعًا من النسيان لتلك الرسالة الجوهرية التي كانت في قلب هذا اليوم.

وفي الوقت الذي يظل فيه عيد العمال رمزاً للنضال ضد الظلم، يجب علينا كأفراد أن نعيد تأكيد ذلك المعنى العميق الذي نشأ من هذه الحركة.

فالتحديات لا تزال قائمة: البطالة، العمل غير المستقر، الأجور المتدنية، واستغلال العمالة في العديد من الدول النامية.

في يوم 1 مايو، يجب أن نتوقف لحظة من الزمن لنفكر فيما حققناه وما الذي لم نحققه بعد، ولنلتزم بأن نواصل نضالنا من أجل عالم أكثر عدلاً للعمال.

عيد العمال، في نظري، هو أكثر من مجرد ذكرى .. إنه دعوة مستمرة للتغيير .. دعوة إلى أن نكون شجعاناً بما يكفي للمطالبة بحقوقنا دون تردد، وأن نكون قادرين على مواجهة كل أشكال الاستغلال بحزم.

في الأول من مايو، يجب أن نُحيي ذكرى العمال الذين ضحوا بحياتهم من أجل حقوقنا، وأن نواصل السير على دربهم بكل عزيمة، لأن النضال من أجل العدالة العمالية هو نضال لا ينتهي، ومهما مرت السنوات، يبقى ذلك الصوت الذي لا يموت.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى