
أثار قرار العفو عن بعض الأسماء التي كان النظام يعتبرها من “المحرضين” حالة واسعة من الجدل، ليس فقط لأن هذه الشخصيات عادت بعد سنوات من الملاحقة، بل لأن الأحكام بحقها سقطت بسهولة غير متوقعة، الأمر الذي جعل كثيرين يتساءلون: إذا كان العفو بهذه البساطة، فلماذا لا يمتد ليشمل آخرين أمضوا سنوات طويلة خلف القضبان؟!
منذ سنوات، تمتلئ السجون المصرية بآلاف الشباب الذين لم يرتكبوا جريمة سوى التعبير عن رأي معارض أو تبني وجهة نظر سياسية مختلفة، فهؤلاء، يمثلون طاقة مهدرة للدولة نفسها، إذ يمكن أن يكونوا جزءاً من عملية البناء إذا أُعيد دمجهم في المجتمع، واستمرار حبسهم لا يقتصر على كونه خسارة بشرية، بل يترك آثاراً عميقة على عائلاتهم ومجتمعهم، ويضاعف من فجوة الثقة بين الدولة وشبابها.
وراء الجدران أيضاً نساء وبنات يقضين سنوات طويلة من أعمارهن بسبب الانتماء العائلي أو النشاط الحقوقي أو مجرد كتابة منشور على وسائل التواصل، بعضهن دخلت السجن وهي في ريعان شبابها، واليوم صارت سنوات عمرها تضيع في قضايا تُوصف بأنها “سياسية بالأساس”.
لا يمكن الحديث عن ملف المعتقلين دون الإشارة قادة العمل السياسي في حقبة ما “وزراء، نواب، اقتصاديون.. ” ثم انتهى بهم المطاف وراء القضبان بدلاً من التكريم.
كثير من التقارير الحقوقية المحلية والدولية وثّقت حالات لمعتقلين يحتاجون إلى تدخل طبي عاجل لم يتوفر لهم، وبعضهم فارق الحياة قبل أن ينال حقه في العلاج. هذه الفئة تحديداً تطرح سؤالاً أخلاقياً وإنسانياً “ما الجدوى من استمرار حبس من لم يعد يمثل أي خطر سياسي أو أمني”؟!
اللافت أيضاً أن بعض الوزراء والمسؤولين السابقين، الذين عرف عنهم التفاني في خدمة الوطن، ورفضوا عروضاً رسمية لتولي مناصب وزارية، ما زالوا رهن الحبس. هذا التناقض يثير حيرة الرأي العام.. كيف تُعرض عليهم مناصب عليا في وقت ما، بينما يُنظر إليهم الآن كـ”خطر” يستوجب العقوبة؟
أليس من الأولى طي هذه الصفحة وإعادة الاعتبار لهؤلاء باعتبارهم جزءاً من تاريخ الدولة نفسها؟
أحد أبرز أوجه التناقض يظهر في ملف المعتقلين الذين عبّروا عن تضامنهم مع فلسطين ورفضهم لما يحدث في غزة، فبينما شمل العفو شخصيات بارزة كانت تدعو لمواقف مشابهة، ظل من استجاب لدعواتهم أو تضامن معهم خلف القضبان، هذه الازدواجية تطرح تساؤلات حول المعايير التي يُبنى عليها قرار العفو، ولماذا يتم التمييز بين من دعا ومن استجاب.
الأبعاد السياسية والاجتماعية
أن استمرار هذا النهج في التعامل مع ملف المعتقلين يُبقي حالة الاحتقان السياسي قائمة، ويُغلق الباب أمام أي حوار مجتمعي حقيقي. العفو الشامل – إذا ما طُبق – قد يكون خطوة جريئة لإعادة بناء الثقة، ليس فقط بين النظام والمعارضة، بل أيضاً بين الدولة والمجتمع. كما أن إطلاق سراح المعتقلين يرسل رسالة إيجابية بطى كل صفحات الاحتقان السياسي والمجتمعي.
مصالحة مجتمعية.. مطلب وضرورة
إن العفو لا يجب أن يُنظر إليه باعتباره منحة تُمنح للبعض دون الآخرين، بل باعتباره استحقاقاً إنسانياً وقانونياً. وإذا كان من الممكن إسقاط أحكام عن أشخاص بعينهم في لحظة، فإن أول من يستحق هذه الخطوة هم من قضوا أعمارهم داخل الزنازين.
لقد آن الأوان لمصالحة مجتمعية شاملة، تُخرج الشباب والنساء وكبار السن والسياسيين من خلف الأسوار، وتعيد دمجهم في الحياة العامة. فبدون هذه الخطوة سيظل الحديث عن الاستقرار والتنمية ناقصاً، لأن أي وطن لا يُبنى إلا بجميع أبنائه.. لا ببعضهم فقط.