
في أول أيام عيد الأضحى، بينما تتعالى تكبيرات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتُذبح الأضاحي قربانًا لله وإحياءً لذكرى الفداء، تتفرد آلة الاحتلال الإسرائيلي بمشهد آخر .. الذبح ليس للخراف بل للمدنيين، والتكبير لا يُسمع فوق ضجيج الطائرات والمدافع، والبهجة تُدفن تحت الأنقاض.
لم يعد هذا الاحتلال يكتفي باغتيال الأجساد، بل أصبح يصرّ على اغتيال الفرح، وسحق ما تبقى من الأمل في ذاكرة الشعوب المكلومة.
في غزة، ومع أول خيوط شمس العيد، بدأ النزوح .. لا خروج للصلاة، لا زيارات ولا تهانٍ ولا ضحكات أطفال، بل أرتال من البشر المشردين يهربون من الموت القادم من السماء.
أحياء بكاملها تم إفراغها بالقوة، تحت تهديد القصف والغارات والمناشير التي تسقطها طائرات الاحتلال، في مشهد أقرب ما يكون إلى تهجير القرن، حيث يتم دفع الناس إلى الموت البطيء تحت ذريعة “الإخلاء لأسباب أمنية”.
أي أمن هذا الذي يُبنى على جثث النساء وأطراف الأطفال؟ أي أمن في اقتلاع الناس من بيوتهم وهم حفاة، جياع، عطشى، يتكئون على خيام ممزقة ونظرات دامعة؟ إنها ليست فقط جريمة حرب كما يصنفها القانون الدولي، بل جريمة ضد الروح البشرية بأكملها.
وفي لبنان، لا يختلف السيناريو كثيرًا، الجنوب يحترق تحت وابل الغارات، والضاحية تئن تحت ركام البيوت، والرسالة واضحة: لا مكان للأمان في زمن العدوان، لا عيد ولا طمأنينة.
الغارات على عين قانا والضاحية ليست فقط خروقًا لقرار 1701، بل طعنات متكررة في جسد السيادة اللبنانية، واعتداء وقح على ما تبقى من كرامة وطن.
الاحتلال لا يميز بين طفل في غزة وطفل في بنت جبيل، بين أم تبكي فلذة كبدها في رفح أو في صور، فكلهم في نظره أعداء لمجرد أنهم ينتمون لوطن يرفض أن يموت صامتًا.
ما يحدث اليوم ليس انزلاقًا عابرًا ولا ردود فعل معزولة، بل هو استمرار لنهج ممنهج يقوم على تحويل كل المناسبات إلى مآتم، وكل لحظة فرح إلى صدمة، وكأن الاحتلال يريد أن يُعيد تعريف الأعياد في وجدان الفلسطينيين واللبنانيين .. لا كرم فيها إلا منازل تُهدم، ولا أضاحي فيها إلا الأرواح البريئة.
أمام هذا المشهد، يتقزم العالم، ويتقوقع الضمير الدولي في زاوية الخزي، ويكتفي المتفرجون ببيانات الشجب التي لم تعد تسمن ولا تغني من دم.
ومن رحم هذا الألم، صادفني مقطع صوتي في موجز أنباء إذاعة “صوت لبنان“، خرج فيه صوت نسائي من بيروت، صوت لا يشبه ضجيج الأبواق السياسية ولا ترهات البيانات الرسمية، بل كان صوتًا نقيًا صادقًا، يُشبه بيروت في حقيقتها .. شامخة رغم الركام، حرة رغم الجراح.
خرجت الإذاعية كاترين عزقلال يونان عن النص، لا بدافع التهريج ولا التمرد على المهنة، بل لأنها لم تستطع أن تحتفظ بالحياد الزائف وهي ترى مدينتها تُقصف وتُهان.
“أنا مواطنة بيروتية قبل أن أكون إذاعية“، قالتها بكل ما تحمله الكلمة من وجع، في موجز أخبار لم يشأ أن يكون اعتياديًا، فكان صرخة قلب وليست فقط جملة في نشرة.
ما قالته كاترين، وإن بدت عليه مسحة انفعال، كان انعكاسًا لإنسانة شاهدت بيروت تُدفع نحو نفس المصير الذي تُدفع إليه غزة.
قالت كاترين، ما يتردد على لسان كل لبناني، لكن لا يجرؤ على الإفصاح عنه. رفضت أن تتحول عاصمة وطنها إلى امتداد لمشاهد الدمار في الجنوب أو في القطاع.
وربما اعتذرت كاترين، بعد ذلك لرئيس التحرير، لكنها لم تعتذر للوطن، لأن الوطن لا يطلب من أبنائه أن يعتذروا حين يصرخون دفاعًا عنه.
إن إصرار الاحتلال الإسرائيلي على مواصلة جرائمه في العيد ليس فقط عملًا عدوانيًا، بل هو فعل فجّ من أفعال الطغيان الذي لا يعرف للمقدسات حرمة ولا للإنسانية معنى.
الاحتلال يقتل لأنه يستطيع، ويهدم لأنه محصّن بصمت دولي، ويتمادى لأنه لا يخشى الحساب، فهل من غرابة أن تستمر المأساة في ظل هذا العالم الأصمّ الأبكم الذي يرى كل شيء ولا يحرك ساكنًا؟ غزة تُباد، ولبنان يُستباح، والأمم المتحدة تكتفي بالإعراب عن “القلق”، فيما تعقد عواصم القرار مؤتمراتها على أطلالنا.
نعم، هذه حرب على الأعياد، على الأفراح، على القدرة حتى على الحزن بشرف .. لكنها أيضًا معركة للكرامة .. ومع كل شهيد يرتقي، يولد عناد جديد.
في غزة، حيث لا زالت التكبيرات تُرفع رغم الأنقاض، وفي لبنان، حيث صوت كاترين عزقلال لم يكن مجرد خروج عن النص، بل دخولًا في صلب الحكاية .. أننا بشر، وأننا سنظل نرفع الصوت، ونُقاوم، حتى لو لم يبق من العيد إلا اسمه، ومن الوطن إلا صوته.
هذا المقال ليس دعوة للبكاء، بل للغضب، ليس فقط للرثاء، بل للرفض، آن للضمير العربي أن يخرج عن صمته، مثلما خرجت تلك الإذاعية عن صمتها، لأن الصمت في زمن المجازر هو شراكة في الجريمة، والحياد أمام الذبح هو خيانة لجوهر الإنسان.