
أكتب هذه الورقة، لا كمن يبرّئ نفسه، ولا كمن يطلب صكّ غفران.
بل كمن يُلقي حجرًا صغيرًا -يومياـ في بحيرة راكدة، مدركًا أن الدوائر ستتسع يوما.
وأن الصدى سيصل بعيدًا، وربما يلامس شاطئًا لم يُقدّر له الله أن يراه.
أكتب لأن السكوت جريمة، ولأن الكلمة –حتى لو وُلدت يتيمة– قد تشعل دربًا في وجه العدم.
“ويلٌ لأمة تكثر فيها المزايدات، ويقل فيها العمل.”
جرّبت الصمت طويلًا، فاكتشفت أنه يريح الآخرين أكثر مما يريحني.
فالذين يتقنون صناعة الأكاذيب، لا يعيشون إلا في فراغك.
وإن انسحبت، منحتهم الهواء الذي يتنفسون به.
لذلك اخترت أن أبقى حاضرًا، ولو كان حضوري شوكةً في حلقهم، أو نورًا يفضح عتمتهم.
“من يملك سببًا يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمل أي شيء.”
تعلّمت مبكرًا أن الصمت أحيانًا أبلغ من البيان.
منذ تلك اللحظة التي أدركت فيها أن الردّ على كل تهمة لا يطفئها، بل يمد في عمرها.
كنتُ في السجن عام ٢٠٠٥، ممنوعًا من الكتابة، ومع ذلك كانت الأكاذيب تطاردني خارج الأسوار أكثر مما تطاردني القيود داخلها.
هناك فهمت أنني مكلّف بالعمل، لا بالنتيجة، وأن التاريخ، لا السجّان، هو الذي يملك الكلمة الأخيرة.
“الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة.”
مع كل فكرة تُولد، أو خطوة تُخطى لكسر الجمود، تنهض الشائعات كأسراب غربان.
تملأ السماء نعيقًا، وتصبغ المشهد سوادًا.
كل محاولة لفتح نافذة، تُقابل بجدار من الافتراء.
كأن المبادرة جريمة، وكأن النية الصافية تهمة.
“إذا ارتفعت الأصوات بالباطل، فاعلم أن الحق قد أوجعهم.”
بعضهم قليل التجربة، يرى أن الخبرة خصومة.
وبعضهم قليل الضمير، يعيش على فتات الافتراءات.
وبعضهم –وهم الأخطر– عُميان القلوب، لا يرون إلا عتمتهم.
ولا يعرفون من النور إلا ما يؤلم أعينهم.
“من صبر على أذى الناس، زاده الله رفعة، ومن قابل السيئة بالحسنى، ملك قلوبهم.”
الاتهام عندهم قناع، يخفون خلفه عجزهم.
كمن يُطفئ المصباح، لا ليغرقك في الظلام، بل ليحجب عن نفسه رؤية ظلّه.
وكما قال الكتاب العزيز: “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”.
فالحق لا يحتاج إلى صخب، بل إلى صمت يضيء كالشمس.
“لن يضرك كلامهم ما دمتَ مؤمنًا بفعلك، فالزمن كفيل بكشف الأقنعة.”
في السجن، لم يكن غريبًا أن يبتكروا شائعة تقول إنني أمريكي الصنع والهوى.
بل زعموا أنني تطوعت في الجيش الأمريكي في حرب فيتنام!
فيتنام التي انتهت وأنا لم أبلغ الثانية من عمري، إذ وُلدت عام 1964!
ولم أزر أمريكا يومًا، ومع ذلك لم يخجلوا من هذا العبث.
زادوا سخريةً حين ألصقوا بي علاقة عاطفية مع “كوندوليزا رايس”.
وزعموا أن لي منها “طفل خطيئة”!
كتب ذلك رئيس تحرير صحيفة “الجمهورية” في افتتاحية على صدر الصفحة الأولى.
ورغم فضيحة الكذبة، لم يجرؤ أحد على الاعتذار.
ولأن الكذب عندهم وجهان، خرج مذيع شهير ليقول إنني إيراني الجنسية!
إيران التي لم تطأها قدماي قط.
وحين سألت عن سر الشائعة، قالوا: إنها ردٌّ على شائعة أخرى عن زيارة مزعومة للسعودية.
زيارة لم أقترحها، ولم تتم، ولم أسمع عنها إلا في تفسير الكاذب للكاذب.
في مدينة بورصه، كنت أقضي عطلة العيد.
قرأت على هاتفي عشرات المواقع التي تنعي وفاتي!
كنت حيًّا أتنفس، بينما هم يتسابقون لنشر خبر موتي.
ولا أعرف: أين حمرة الخجل في وجوه من يصنع شائعة يعلم أنها ستكذب بعد ساعات؟
ومنذ أن جئت تركيا قبل أكثر من عشر سنوات، قيل كل يوم إن عودتي إلى مصر وشيكة.
تمضي الأعوام، وتتهاوى الأكاذيب، ومع ذلك تتكرر ذات العبارة البالية.
كأنهم أفلسوا في صناعة كذب جديد.
حتى قناتي الشرق لم تسلم، يتهموننا بالتفريط والخيانة، بينما لا يسألون أنفسهم يومًا: ماذا حققوا هم؟ وبأي بطولة كاذبة يزايدون؟
ومؤخرًا، طرحت رأيًا يتصل بالعلاقات المصرية السعودية.
البعض سمّاه “مبادرة”، وآخرون أطلقوا عليه “مؤامرة”.
لم يكن هذا ولا ذاك… بل مجرد محاولة لمدّ جسور ثقة انقطعت.
بينما الوطن يدفع ثمن انكسارها.
لكن هناك دائمًا من يهوى التسفّل…
من يهوى “الإعجابات” الرخيصة والتعليقات الفارغة.
يريدون أن يهبطوا بالحوار السياسي والفكري إلى حضيض السباب.
لن يرهبني هذا الإرهاب المعنوي، ولن يمنعني من قول ما أراه حقًا لوطني.
الحقيقة أن دوري أن أبذل الجهد، أما النتيجة فليست لي.
والرد على من لا يبذل جهدًا إلا في تعطيل الآخرين، ليس سوى مضاعفة جهد لإفشال جهده في التعويق.
فذلك يكشف جهله بالواقع، وقلة خبرته في التعامل مع القضايا الكبرى.
“السياسة فن الصبر على ما لا يُحتمل.”
وأكتب اليوم أيضًا لأنني مؤمن أن الأبواب المغلقة لا تُفتح بالصدفة.
بل تُفتح بالطرق، ثم الطرق، ثم الطرق… حتى تنكسر الضبة وينكسر المفتاح.
#نطرقالأبواب… بإيمان… بإصرار… بثقة أن الإصرار وحده طريق إلى التغيير.
وأستحضر في هذا السياق صورة صديقي العزيز، المفكر التركي المستشرق د. ياسين أقطاي.
رأيته يتلقى السهام في صدره، فلا يغيّر ذلك من سماحته، ولا من تواضعه الجم.
ظلّ ثابتًا كالجبل، متدفقًا كالنهر، متسامحًا كالأرض التي تحتمل كل ما يُلقى فوقها.
علّمني بابتسامته أن التسامح ليس ضعفًا، بل ذروة القوة.
وأن الاعتدال ليس موقعًا وسطًا بين تطرفين، بل هو موقف أعلى وأسمى من كليهما.
“قد يطول ليل القهر، لكن فجر الحرية لا يتأخر.”
وأتذكر والدي –رحمه الله– حين وضع يده على كتفي طفلًا، وقال:
“يا بُني، لا تجعل صوت الباطل يسرق منك يقينك، فالباطل صاخب، والحق هادئ”.
وأتذكر سجني حين كتبت على قصاصات أوراق مهترئة، أخفيها في جيبي كمن يُخبّئ قلبًا نابضًا.
لم يكن معي يومها إلا الكلمة، ولم يكن لي عزاء سوى أن الكلمة الصادقة لا تموت.
السجن كان مدرستي الكبرى. علّمني الصبر، وأعاد تعريف الحرية لي.
هناك، في الزنازين الباردة، اكتشفت أن الحديد لا يكسر الإرادة.
وأن الأبواب المغلقة لا تُفتح بالقوة وحدها، بل بالطرق المتواصل.
وأن الإنسان قد يُسلب جسده، لكن لا يُسلب إيمانه، ولا يُسجن ضوءه.
واليوم، وأنا أكتب هذه الورقة… أستعيد كل الأصوات والوجوه واللحظات.
كلها صنعت يقيني بأن النور –ولو حاصرته العواصف– لا ينطفئ.
وأن من يطرق الأبواب، سيُفتح له، مهما طال الليل.
وأن من صبر في سجنه، خرج أكثر حرية من سجّانه. هذه ليست محاولة لتبرئة نفسي من الأكاذيب.
ولا ردًّا على الشائعات، بل يقينٌ أكتبه للتاريخ.
أن النور، مهما حاصرته الدخان، سيبقى نورًا.
وأن من أصرّ على الطرق، فتحت له الأبواب.
وأن الحقيقى، وأن مصلحة الوطن فوق كل خصومة.
وأن الكلمة الصادقة لا تموت، ولو خذلها الجميع.