مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: رغيف العيش الخط الأحمر الذي يتحدى النظام

رغيف العيش الخط الأحمر الذي يتحدى النظام، “كِسْرَةُ خُبْزٍ في الصَّباح خَيْرٌ مِنْ لا شَيْءَ طُولَ النَّهَار”.
هذه الحكمة الشعبية البسيطة تُختَزِل فيها تراجيديا شعب.
فبينما يتعالى خطاب النخبة عن “مشروعات قومية” و”إنجازات”، يظل الصراع الأساسي للإنسان المصري هو انتزاع رغيفه اليومي من بين فكّي سياساتٍ طاحنة، ترفع معدلات الفقر إلى فوق 40%، وتجعل من الخبز، أبسط مقومات الحياة، خطاً أحمر للكرامة يتم تجاوزه كل يوم.

من رمز الحياة إلى أداة للقهر ولطالما كان الخبز عبر التاريخ شريان الحياة نفسه. لقد قدّسه الفراعنة ودفنوه مع موتاهم، وارتبط في التراث العربي بصفاء العقل وروح الكرم، كما في قصة هاشم بن عبد مناف الذي “هشم الثريد” ليقاوم المجاعة.

في المسيحية، أصبح جسداً مقدساً، وفي اليهودية، طقساً دينياً.

الخبز في كل الحضارات كان هبة إلهية ورمزاً للرخاء. لكن في مصر اليوم، يتم تحويل هذا الرمز المقدس إلى أداة للقهر والسيطرة.

لقد حوّل النظام رغيف العيش من حقٍ مكفول بموجب العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، إلى “هبة” أو “منّة” تُمنح بشروط، أو تُسحب كعقاب جماعي.

لقد نسي النظام أن تاريخ الخبز هو تاريخ الثورات.

فمن شعار “عيش، حرية، كرامة إنسانية” الذي أطاح بديكتاتورية، إلى “خبز حرية عدالة اجتماعية” الذي هز عروش الطغاة، كان الرغيف دائماً شرارة التمرد على الظلم.

لطالما استخدم الطغاة الخبز سلاحاً لكن المفارقة المرة أن مصر، التي علّمت العالم صناعة الخبز قبل آلاف السنين، والتي كان خبز أغنيائها من الشعير وفقيرها من حبوب أخرى (كما سجّل الفراعنة على جدران معابدهم)، تعود اليوم لتكرس نفس الفروق الطبقية البشعة.

فبينما تتهافت السلطة على إرضاء شركائها في النخبة، يُترك الشعب يواجه أزمةً في الدقيق، وارتفاعاً في الأسعار، وتهديداً صريحاً بدعم هذا الرغيف، الذي يمثل آخر خطوط الدفاع عن كرامة ملايين المصريين.

إن الحديث عن “نسب فقر” يتجاوز 40% ليس إحصاءً جامداً، بل هو اعترافٌ رسمي بفشل كامل.
إنه يعني أن النظام قد أخفق في مهمته وهي ضمان لقمة العيش لمن يحكمهم.

عندما يصبح رغيف الخبز هو الهاجس الأول والهم اليومي للمواطن، فإن كل خطاب عن “استقرار” و”إنجازات” يتحول إلى سخرية قاسية.

الخبز سيظل الخط الأحمر ولقد فهم كل حكام مصر على مر العصور أن المساس برغيف العيش هو مساس بأمن البلاد القومي الحقيقي، لا بأمن النظام وحساباته الضيقة.

الخبز ليس مجرد خليط من الدقيق والماء، إنه رمز للعدالة.

وهو يذكرنا بأن العقد الاجتماعي منقوص؛ فشعب يُحرم من حقه في العيش الكريم هو شعب يُدفع نحو اليأس.

رغيف العيش هو بالفعل الخط الأحمر إنه الخط الذي إن تجاوزه النظام مرة أخرى، سيجد أن صبر الناس له حدود، وأن تاريخ الخبز المقدس سيذكرهم دائماً أن من يستخف برغيفهم، لا يستحق حكمهم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى