مقالات وآراء

ناجي الكرشابي يكتب : من “الخرطوم” إلى “القاهرة”: لا تُعيدوا أخطاءنا..!

أكتب هذه السطور مشفقًا، لا بلسان المراقب البعيد، بل بلسان من خبر معنى الانقسام في بلادي الحبيبة السودان، الشقّ الآخر من وادي النيل. رأيت بأمّ عيني كيف أن العناد السياسي وتصلّب المواقف أورثا وطنًا كاملًا الخراب، وكيف أن السجالات التي كان يمكن أن تُحسم بالحوار تحولت مع الوقت إلى حرائق أحرقت الأخضر واليابس.

خلال الأيام الماضية، أثارت مبادرة البرلماني السابق الدكتور محمد عماد صابر، وتصريحات الدكتور أيمن نور حول ضرورة إطلاق حوار وطني ممتد، نقاشًا واسعًا في الساحة المصرية.

ومهما اختلفنا في تقييم الأسماء أو التفاصيل، فإن القيمة الحقيقية تكمن في فكرة البحث عن مخرج مشترك من الأزمة، لا الاكتفاء بالشكوى من انسداد الأفق.

لقد قدّم الدكتور أيمن نور تصورًا عمليًا يقوم على ثلاث مراحل قانونية تبدأ بمعالجة ملف المعتقلين، مرورًا بوضع أرضية للتفاهم، وصولًا إلى إطلاق مسار وطني جامع. هذا الطرح، وغيره من الأصوات المخلصة، ينبغي أن يُقرأ في سياق البحث عن المستقبل، لا في سياق تصفية الحسابات. فالحقيقة التي لا تخفى أن أي انفراجة سياسية ستنعكس فورًا على الاقتصاد المأزوم، وعلى المجتمع الذي أنهكته الأوضاع المعيشية.

هنا أتذكر مثلًا سودانيًا عميقًا، كان يردده الإمام الراحل الصادق المهدي: «الفش قبينته خرب مدينته».

وقد صدق الرجل، فما عايشناه نحن في السودان خير شاهد على ذلك. لقد أفشينا أسرار بعضنا، وخذلنا أوطاننا بتفضيل المكابرة على التنازل، حتى انفرط العقد وضاعت الدولة بين أنياب الحرب. لم نستبن هذا الدرس إلا ضحى الغد، بعد أن صار الخراب واقعًا.

من أجل مصر، أدعو الفرقاء جميعًا ــ سلطة ومعارضة ــ إلى أن يغلّبوا منطق الحكمة على نزعة الثأر. مصر تستحق أن تُفتح لها نوافذ التفاهم، لا أن تُغلق أبوابها بالاتهامات المتبادلة. التنازل ليس هزيمة، بل هو في كثير من الأحيان عين الانتصار إذا كان ثمنه بقاء الدولة وحماية المجتمع من الانزلاق إلى مصائر مظلمة.

الخيارات المتطرفة التي يحذّر منها البعض ليست قدرًا محتوماً، بل نتيجة طبيعية لأي انسداد طويل. والتاريخ يخبرنا أن الأمم التي أنقذت نفسها من الهاوية لم تفعل ذلك بالسلاح ولا بالاستئصال، بل بالحوار والاعتراف المتبادل.

إن مصر، بتاريخها العريق وحضارتها الممتدة، تستحق من جميع أبنائها أن يتساموا فوق الجراح، وأن يدركوا أن لا منتصر في معركة الإقصاء الداخلي. فليكن المستقبل المشترك هو الهدف، وليكن الحوار هو الطريق.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى