
في ربيع عام 1979، حين أعلنت مصر عن أول عيدٍ للفن والثقافة، كنتُ شابًا يافعًا، أتلمّس خطواتي الأولى في عالم الصحافة الطلّابية، أحمل في قلبي شغف الكلمة، وفي عقلي أحلام جيلٍ يتطلّع للغد. لم أكن أعلم آنذاك أن القدر يخبّئ لي لحظةً استثنائية، ستظلّ حيّة في ذاكرتي، حين تم اختياري، بتزكية من أستاذي مصطفى أمين، لنيل جائزةٍ تشجيعية في مجال الصحافة، ضمن مجموعة من الشباب الذين رشّحهم، تعويضًا لغيابه عن تكريم رسمي، إثر خلافه مع الرئيس السادات.

في الحفل الرسمي، الذي رعاه وزير الثقافة والإعلام آنذاك، منصور حسن، سلّمني جائزتي في لقاءٍ أول، لا أنساه، ولا أنسى هيبة الرجل، وهدوءه، وملامحه التي جمعت بين سكينة المفكر وصرامة رجل الدولة. لم يكن يعلم أن هذا الشاب الذي يصافحه اليوم، سيحمل له ذات يوم تقديرًا يتجاوز لحظة التكريم، ليتحوّل إلى اقتناعٍ راسخٍ بفكر رجلٍ كاد أن يغيّر وجه السلطة في مصر.
منذ ذلك اليوم، تابعتُ مسيرة الرجل باهتمامٍ يليق بقيمته. كان مثقفًا مدنيًا في محيطٍ عسكري، يتقدّم بخطى واثقة داخل مؤسساتٍ لم تعتد أن ترى في المدنية كفاءةً أو شرعية. كان بينه وبين منصب نائب الرئيس خطواتٌ قليلة، لولا أن تحوّلت تلك الخطوات إلى فخّ سياسي، وصدامٍ مكتومٍ مع حسني مبارك، النائب الطامح لكرسيّ الرئاسة.
جيهان السادات، التي رأت فيه وجهًا مدنيًا واعدًا، دفعت بقوة نحو تعيينه نائبًا للرئيس، لكن السادات، رغم حماسه، قرر – تحت ضغط المعادلة العسكرية – أن يكون نائبًا ثانيًا، بينما يظل مبارك نائبًا أول. تصاعد التوتر، وبلغ ذروته حين أسند السادات لمنصور حسن مهمة الإشراف على البريد الرئاسي، في وقتٍ لم يكن لمبارك من دور سوى هذا الملف تحديدًا.
اعتكف مبارك في منزله، وراوغ بذكاء، واستمال الجيش إلى جانبه، فاضطر السادات إلى تجميد قرار تعيين منصور. وللمفارقة، يُقال إن السادات كان سيعلنه رسميًا نائبًا للرئيس يوم 7 أكتوبر 1981، أي قبل يومٍ واحدٍ فقط من اغتياله على منصة العرض العسكري. طُويت صفحة منصور، لا لأنه فشل، بل لأن السلطة في مصر كانت – وما تزال – أضيق من أن تحتمل مدنيًا حرًا في أعلى قمّتها.
بعد عقود، حين أسّسنا حزب “الغد”، فوجئتُ بتحذير من كمال الشاذلي بعد انضمام محمد، نجل منصور حسن، إلى الهيئة القيادية للحزب، باعتباره “استفزازًا” لمبارك. وكان هذا، في حدّ ذاته، مدعاةً للفخر لا للتراجع، فقد كانت مجرد ظلال الرجل تثير الذعر لدى من تربّعوا على مقاعد السلطة.
وفي عام 2005، حين فُتح باب الترشح لأول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ مصر، لم أُسارع بإعلان ترشّحي، بل قررت – بدافعٍ من قناعةٍ سياسيةٍ وأخلاقية – أن أعرض الفكرة أولًا على شخصيتين رأيت فيهما كفاءةً ووزنًا وتاريخًا: المشير عبد الحليم أبو غزالة، والوزير منصور حسن.
كانت لحظة مصارحةٍ صعبة، لكن منصور حسن كان صادقًا وواضحًا. قال لي إنه لا يرحّب بفكرة الترشّح، لا تراجعًا، بل لأن إعادة اسمه إلى الواجهة ستجدّد الصراع الذي دفع ثمنه من قبل. كان يخشى أن يتحوّل ترشّحه إلى فتيل أزمةٍ سياسية، لا إلى معركة انتخابية. لكنه وعدني، إن قررتُ خوضها، بأن يساندني. وقد فعل.
في أول انتخابات رئاسية عرفتها مصر، عام 2005، كان منصور حسن، من بعيد، من الظلّ، رجلًا لم يظهر، لكنه لم يغِب. دعم التجربة، وأيّد الخطوة، وفتح لي بابًا من الثقة لم يُغلق حتى اليوم.
لقد ظلّ “الوزير المدني” طوال حياته شاهدًا على خيبة حلم الدولة المدنية، وعلى مقاومة السلطة لكل ما يهدّد ميراثها العسكري. ورغم كل شيء، بقي منصور حسن هو الوجه النبيل لذلك الحلم المؤجل.
بعد ثورة يناير، التقيتُ السيد منصور حسن عدة مرات، برفقة الدكتورة منى مكرم عبيد. كان الاتجاه وقتها أن يترشّح للانتخابات الرئاسية. وبالفعل، تواصل معه أحد قيادات الإخوان لهذا الغرض، لكن التواصل انقطع دون مبررٍ واضح. شعر منصور حسن بخيبة أمل، إذ لم يفهم سبب تجاهل هذا التواصل. ورغم اختلافاتنا في التقديرات بعد الثورة، ظل منصور حسن بالنسبة لي رجلًا جسّد الرجولة في زمنٍ عزّت فيه، ورمزًا للمدنية والليبرالية السياسية، أقدّره في كل الأوقات، سواء اتفقنا أو اختلفنا.
يتبع في الورقة القادمة…
الصراع الثاني على رئاسة مصر
أبو غزالة الذي غدر به مبارك
د. أيمن نور
المرشح الرئاسي الأسبق – رئيس حزب غد الثورة