
في الشوارع المصرية حيث يتجذر التاريخ وتنبض الحياة، يجرى حدث يفترض أن يكون مناسبة وطنية كبرى، وهو الانتخابات البرلمانية، ولكن الهدوء المخيف الذي يلف هذه الشوارع يكشف حقيقة مؤلمة، وهي أن الشعب المصري قرر بأقدامه الصامتة أن يعطي دروساً في السياسة لنخبة غارقة في أوهامها، ىنسب المشاركة الهزيلة، فهي ليست مجرد إحصائية عابرة، بل هي صرخة مدوية، وإنذار سياسي صريح لا يحتمل التأويل.
عندما يفضل المواطن الجلوس في بيته على الذهاب لصناديق الاقتراع، فهو لا يعبر عن كسل أو جهل، إنه يصوّت بلغة أبلغ من كل الخطابات، لغة المقاطعة الهادئة، هذا العزوف الواسع هو تشخيص دقيق لمرض عضال في جسد الحياة السياسية المصرية، إنه يكشف أن العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن في حالة انهيار، وأن الثقة التي هي أساس شرعية أي نظام قد تآكلت إلى حد الخطر.
وفي “كوكب آخر” نجد التفسيرات الرسمية التي تتحدث عن “رضا المواطنين” أو “الانشغال بالمعيشة” هي محاولات يائسة لتبرير الواقع المرير، الحقيقة أن المصريين، الذين خرجوا بالملايين في انتخابات 2011، وبنسبة مشاركة تجاوزت 40% في انتخابات ما بعد الثورة، لم يفقدوا حماسهم فجأة، لقد فقدوا الإيمان بجدوى العملية نفسها.
إن جوهر الأزمة يكمن في تحويل السياسة من حق وممارسة جماعية إلى احتكار فئوي، لقد تم تصميم النظام الانتخابي ليكون متاهة سخيفة، قوائم مغلقة مطلقة تتحكم فيها الدولة، ودوائر فردية تُدار بالمال والنفوذ، ومعارضة مدجّنة قبلت أن تكون ديكوراً، في هذا المشهد المشوّه، لم يعد المواطن شريكاً بل أصبح متفرجاً، ولم يعد صوته أداة تغيير بل تحول إلى طقس شكلي فارغ.
والأخطر من العزوف ذاته هو رد الفعل الرسمي عليه، فبدلاً من قراءة الأرقام كمنبه خطر، يُتعامل معها كإحراج يجب التغطية عليه، وهذا المنطق الدفاعي لا يزيد الأزمة إلا تعقيداً، ويحوّل الاحتجاج الصامت إلى سخط قابل للانفجار.
فالدولة الحقيقية ليست تلك التي تخاف من شعبها، بل تلك التي تستمد قوتها منه، والتاريخ يعلمنا أن أعظم فترات الاستقرار هي تلك التي تكون فيها القنوات مفتوحة بين الحاكم والمحكوم، ولذلك فإن فتح المجال العام اليوم ليس مطلباً ليبرالياً نظرياً، بل هو ضرورة وطنية عاجلة لثلاثة أسباب أساسية، أولها حماية الاستقرار الحقيقي، والاستقرار ليس غياب الأصوات العالية، بل هو وجود قنوات آمنة للتعبير، فالقمع ينتج هدوء المقابر، أما الحرية فتنتج حيوية المجتمعات، والاستقرار المبني على الخوف هو استقرار زائف، يشبه بناءً شاهقاً على أساس من رمال.
وثانيها تجديد الشرعية المنهكة، فالشرعية لا تُورث ولا تُفرض، بل تُكتسب يومياً عبر التفاعل الإيجابي مع المواطنين، والانتخابات الحرة والنزيهة هي الضمان الوحيد لشرعية دائمة، فالبرلمان الضعيف المنتخب بنسبة لا تتجاوز 10% لا يمكن أن يكون سنداً لأي نظام في الأزمات.
وثالثهما بناء مشاركة حقيقية، فالمشاركة ليست ترفاً ديمقراطياً، بل هي آلة التنمية الحقيقية، ولا يمكن بناء اقتصاد قوي بمجتمع ضعيف، ولا يمكن تحقيق طموحات تنموية بشعب غائب عن القرار، فالمواطن المشارك هو شريك في النجاح، بينما المواطن المستبعد سيكون بالضرورة شريكاً في الفشل.
والرسالة اليوم واضحة ولا تحتمل المواربة، إما إصلاح سياسي جاد وشامل، أو استمرار نزيف الثقة حتى نقطة اللاعودة، هذا الإصلاح يجب أن يبدأ من عدة نقاط أساسية أهمها إصلاح النظام الانتخابي، وتحويله من أداة هيمنة إلى آلية تمثيل حقيقية، بضمانات نزاهة واستقلال، مع إطلاق الحريات العامة من خلال فضاء إعلامي حر، ومجتمع مدني فاعل، وحقوق سياسية مكفولة، ولا يقل في الأهمية إعادة الاعتبار للبرلمان، وضرورة تحويله من نادٍ للموالين إلى ساحة حوار سياسي ونيابي حقيقية، وفتح حوار وطني جديد أكثر جدية وتأثير مع كل القوى السياسية، بلا استثناءات ولا خطوط حمراء.
يا سادة مصر على مفترق طرق، فإما أن تختار طريق الإصلاح السياسي الجاد الذي يجدد شرعية النظام ويعيد الثقة بين الدولة والمواطن، أو تستمرفي طريق التدهور الذي قد يقود إلى عواقب لا تحمد عقباها.
ويجب أن ينتبه الجميع إن الشعب المصري لم يمت، بل هو يراقب بوعي، مما يضع النخبة الحاكمة أمام اختبار تاريخي، هل تستمع إلى صوت الشعب الصامت قبل أن تضطر للاستماع إلى صوته الصاخب؟ هل تدرك أن الدولة القوية حقاً هي التي لا تخشى مواطنيها، بل تحتضنهم وتستمع إليهم؟
الوقت يدق، والساعة تتقدم، فإما مصر للمصريين بكل ألوانهم وأصواتهم، أو مصير غير معلوم، وهذه ليست شعارات، بل هي حقائق تاريخية تفرض نفسها، وغداً سيكون لمن يقرأ اليوم جيداً، ويعمل بحكمة، ويختار طريق الإصلاح قبل فوات الأوان







