
في التاسع والعشرين من أكتوبر ٢٠٢٥، قال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري كلمته الحاسمة:
“لا حرب… والأجواء إيجابية.”
جملة واحدة كانت كافية لإطفاء حرائق التهويل التي أشعلتها وسائل الإعلام الغربية والعربية الموتورة على مدى أسبوعين، حين ضجّ الفضاء اللبناني بخرائط وسيناريوهات ومقاطع متخيلة لحربٍ شاملة تلوّح في الأفق.
كأنّ البلاد كانت على وشك أن تُقاد إلى الهاوية بالحروف قبل القذائف.
انتهى المشهد بطمأنة هادئة من “عين التينة”، لكن الضجيج الذي سبقه لم يكن عابرًا.
منذ منتصف أكتوبر، تحوّل لبنان إلى نشرة إنذار مبكر، تتقاذفه توقعات الهجوم “الإسرائيلي” من الجنوب والبقاع والضاحية، وأحاديث عن قصف مراكز رسمية للضغط على الحكومة.
ومع كل تهديد “إسرائيلي”، كان هناك صوت لبناني يردّد صداه، كأنّه جزء من الجوقة لا من الجبهة.
اللافت في كل هذه الحملات أن بعض الأقلام والمحللين اللبنانيين بدوا وكأنهم يكتبون من داخل غرف التخطيط في تل أبيب.
تصريحاتهم وتسريباتهم جاءت متطابقة مع ما يرد في الإعلام العبري، وكأنّهم على صلة مباشرة بصنّاع القرار هناك.
لكن الهدف واحد: تهيئة الداخل اللبناني لتقبّل فكرة “السلام” القسري، بعد إقناعه بأن المقاومة فشلت في حماية الوطن، وأن لا سبيل أمام لبنان سوى التخلّي عن سلاحه والدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية أميركية.
في هذا السياق، تُعاد صياغة فكرة “لبنان الجديد”، دولة بلا مقاومة، وبلا ذاكرة، وبلا مناعة وطنية، تُدمج قسراً في منظومة “الشرق الأوسط الجديد”.
ومن اللافت أنّ بعض الدوائر الدبلوماسية في واشنطن وتل أبيب باتت تتعامل مع لبنان لا كدولة ذات سيادة، بل كساحة اختبار لمعادلةٍ أكبر:
هل يمكن فرض السلام بالقوة، أم يمكن إعادة تشكيل الشرق الأوسط بضغط التجويع والترهيب بدل الغزو العسكري؟
ومع ذلك، يقرّ الأمريكيون قبل غيرهم أن لبنان، رغم صِغَر حجمه، يحمل في طيّاته ما يُقلق المشروع الإقليمي برمّته.
فهو يمتلك عناصر مقاومة قادرة على تعطيل خطط الهيمنة، ويملك الذاكرة التي فشلت تل أبيب في محوها منذ اجتياح ١٩٨٢.
ولذلك، كل الضغوط – من النار في الجنوب، إلى العقوبات في العواصم، إلى الحملات الإعلامية في الداخل – ليست سوى أدوات لتليين صخرة الممانعة اللبنانية تمهيدًا لاتفاق إذعان جديد.
في المقابل، برزت القاهرة مجددًا كصوتٍ عاقلٍ وسط هذا الصخب.
زيارة مدير المخابرات العامة اللواء حسن رشاد إلى بيروت، والتحرّكات النشطة للسفير علاء موسى، ثم حضور الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، أعادت التذكير بالدور التاريخي لمصر حين تتقدّم الصف العربي في لحظات الاشتعال.
هي لا تأتي هذه المرة بصفة “الوسيط”، بل كـ“أم الصبي”، تحمل الذاكرة والخبرة ذاتها التي أنقذت غزة في اتفاق شرم الشيخ، حين أطفأت نار الحرب وأنقذت الفلسطينيين من التهجير.
القاهرة اليوم تتحرّك تحت مظلّة براغماتية أميركية جديدة تفضّل الحلول الدبلوماسية على المجازر المفتوحة، بعدما تحوّلت صورة إسرائيل من “واحة ديمقراطية” إلى كيانٍ غارقٍ في الدم والفضائح.
ولذلك تسعى مصر لتثبيت موطئ قدمها في المعادلات الإقليمية عبر مسارين متوازيين: غزة ولبنان.
ترى في كليهما مساحةً لاستعادة حضورها العربي، وموقعًا لاستثمار رصيدها التاريخي من الثقة والتجربة.
لكن لا ضمان أن يستمرّ هذا النسق دون منغّصات.
فنتنياهو، رغم شعوره بالضيق من الحروب التي فشل في حسمها، لا يستطيع كبح نزعة التوسّع المتأصلة فيه.
سيواصل الضغط الميداني والابتزاز السياسي، مستخدمًا الوقت لترتيب بيته الداخلي استعدادًا لمعركة الكنيست المقبلة.
أما لبنان، فسيعيش هدنة مضبوطة الإيقاع، خصوصًا مع اقتراب زيارة البابا لاوون إلى بيروت، وما تفرضه من تهدئة إنسانية وروحية مؤقتة.
ومع ذلك، تظلّ مصر مطالبة بجهدٍ استثنائي للحفاظ على زخمها، لأنّ هناك من يضيق بعودتها إلى قلب المشهد، تمامًا كما حدث بعد اتفاق شرم الشيخ حين توزّعت الأدوار بين القاهرة والدوحة وأنقرة.
بعض الأطراف الإقليمية سيحاول مجددًا تحجيم الدور المصري عبر نقدٍ صاخبٍ للمقاومة أو تشكيكٍ في جدوى الحوار، لكن التاريخ علّمنا أن مصر حين تريد، تصنع التوازن بين النار والماء.
في نهاية المطاف، لبنان اليوم ليس على شفا حرب، بل على شفا إدراك.
فالأوطان لا تنهار بالرصاص فقط، بل حين ينهزم وعيها.
والتهويل بالحرب، أحيانًا، أخطر من الحرب نفسها، لأنه يزرع الهزيمة في القلوب قبل أن تقع في الميدان.
لذلك، تبقى تصريحات نبيه بري في ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥ بمثابة جرس تنبيه لا بيان نفي، ورسالة بأن السياسة ما زالت قادرة على كبح الجنون، إذا اجتمع العقل اللبناني والعقل العربي على كلمة سواء.
فلبنان لا يحتاج إلى حربٍ جديدة… بل إلى قراءةٍ جديدة للحرب.
ومصر، التي أنقذت غزة من الرماد، ربما تكون اليوم آخر من يستطيع أن ينقذ بيروت من ألسنة اللهب غير المشتعلة







