
لم تعد فكرة “إسرائيل الكبرى” مجرد أسطورة يتداولها المتطرفون الصهاينة أو نظرية مؤامرة يتهامس بها في الكواليس، بل أصبحت مشروعًا معلنًا يتبناه رأس السلطة في الكيان المحتل.
بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال، خرج إلى العلن ليعلن أن ما يراه الآخرون خطرًا وجوديًا على المنطقة هو بالنسبة له “مهمة تاريخية وروحانية” يرتبط بها ارتباطًا عميقًا.
هذا التصريح لم يأتِ في فراغ، بل جاء في سياق إقليمي ودولي يتقاطع فيه الحلم الصهيوني مع خرائط النفوذ الأمريكي، وسط حالة عربية متردية تفتح الباب أمام مشروع توسعي يهدد الجغرافيا والهوية معًا.
التصريح الأخطر
في حوار مع قناة i24، وعندما قُدّمت لنتنياهو خريطة لإسرائيل الكبرى تضم فلسطين كاملة وأجزاء من الأردن وسيناء المصرية، أجاب بلا تردد:
“أشعر أنني في مهمة تاريخية وروحانية… وأنا مرتبط جدًا برؤية إسرائيل الكبرى.”
هذه العبارة ليست دعاية انتخابية ولا خطابًا عاطفيًا، بل إفصاح عن التزام استراتيجي يرى فيه نتنياهو تتويجًا لمسيرته السياسية، مستندًا إلى دعم تيارات صهيونية إنجيلية في واشنطن تعتبر هذا المشروع تحقيقًا لـ”نبوءات” دينية محرّفة.
الجذور التاريخية للمشروع
منذ مؤتمر بازل الصهيوني عام 1897، ومرورًا بوعد بلفور عام 1917، كان الحلم الصهيوني واضح المعالم: السيطرة على الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات.
وفي الأدبيات الصهيونية، يُنظر إلى الأردن كـ”أرض إسرائيل الشرقية”، وسيناء كعمق استراتيجي، بينما تبقى فلسطين الكاملة قلب المشروع ومحوره.
هذه الخريطة ليست مجرد رمزية سياسية، بل وثيقة عمل تُدرّس في مدارسهم العسكرية والسياسية، ويتم التخطيط لتنفيذها خطوة بخطوة، عبر الحروب، والتسويات، والاختراقات الاقتصادية.
من النظرية إلى التطبيق
نتنياهو لم يكتفِ بالتصريحات، بل ترجم رؤيته إلى سياسات عملية:
• في غزة: حصار شامل، وقصف متكرر، ومحاولات تهجير منظمة لتغيير الواقع الديمغرافي.
• في الضفة الغربية: استيطان متسارع وتهويد كامل للمناطق الحساسة.
• في الأردن: ضغوط سياسية واقتصادية لإعادة صياغة دور المملكة في القضية الفلسطينية.
• في سيناء: استغلال الظروف الاقتصادية والأمنية لإدخال مشاريع قد تمهد لتغييرات جغرافية.
• إقليميًا: قصف إيران ولبنان واليمن وسوريا، في رسالة واضحة بأن الكيان مستعد لفرض هيمنته بالقوة العسكرية.
البيئة العربية المهيأة
المؤسف أن هذه الرؤية التوسعية تجد بيئة عربية مناسبة، بفعل أنظمة مستسلمة أو متواطئة، تحارب شعوبها أكثر مما تواجه العدو، وتغلق الأبواب أمام أي مقاومة، بينما تفتحها أمام الصفقات الاقتصادية والتطبيع العلني والمستتر.
هذه الأنظمة تعمل، عن قصد أو عن خوف، على تفريغ الساحة من كل من يمكن أن يقف في وجه المشروع.
الدرس من التاريخ
في حرب أكتوبر 1973، لم تحمِ السويس من السقوط في يد العدو إلا المقاومة الشعبية بقيادة الشيخ حافظ سلامة رحمه الله، بينما كان القرار الرسمي يتجه نحو التفاوض عند الكيلو 101، على بعد مئة كيلومتر فقط من قلب القاهرة.
التاريخ يثبت أن الشعوب الواعية المنظمة قادرة على قلب المعادلات، حتى أمام أعداء يملكون تفوقًا عسكريًا.
البعد الجيوسياسي للمخطط
تصريحات نتنياهو لا يمكن فصلها عن خرائط النفوذ التي ترسمها المراكز الاستراتيجية في واشنطن وتل أبيب.
الولايات المتحدة تتعامل مع مشروع “إسرائيل الكبرى” كجزء من رؤية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر تقسيمه إلى كيانات أصغر، وفق مبدأ “التجزئة من أجل السيطرة”.
خرائط مثل “حدود الدم” التي نشرها العقيد الأمريكي المتقاعد رالف بيترز عام 2006، أو مخططات برنارد لويس قبل عقود، تتقاطع مع الطموح الصهيوني في ضمان هيمنة عسكرية واقتصادية على المنطقة، مع بقاء الجيوش العربية مفككة، والمجتمعات في حالة انقسام دائم.
بهذا المعنى، فإن ما يقوله نتنياهو ليس حلمًا شخصيًا، بل حلقة في مخطط استراتيجي متكامل، يجمع بين النبوءات المزعومة والمصالح الإمبراطورية.
فماذا عنا؟
إذا كان نتنياهو يخطط لمئة عام قادمة، فهل نخطط نحن حتى لمئة يوم قادمة؟
هل نمتلك مشروعًا موحدًا سياسيًا وشعبيًا لمواجهة هذا التحدي، أم سنترك الساحة فارغة ليملأها العدو؟
الخطر اليوم ليس على فلسطين وحدها، بل على كل شبر من منطقتنا، وعلى هويتنا ومستقبل أجيالنا.
خاتمة
هذا التصريح إعلان نوايا لحرب وجودية، وتركه يمر بلا رد جاد سياسيًا وشعبيًا هو تواطؤ بالصمت.
إنها لحظة اختبار للكرامة الوطنية، وللقدرة على حماية الأرض والهوية.
وإذا كان العدو يسأل نفسه كيف يحقق حلمه، فنحن أولى بأن نسأل بصوت واحد:
فماذا عنا؟