د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكراتي الصراع على الرئاسة (٦) الجنرال سامي عنان ممنوع الاقتراب والتصوير

بعض الرجال، لا يُهزمون لأنهم فشلوا، بل لأنهم اقتربوا أكثر مما ينبغي من دائرة الضوء.
وسامي عنان كان واحدًا من هؤلاء… ضابط محترف، لا يملك كاريزما الزعامة، لكنه امتلك الطموح…
ومع الطموح، يأتي الخوف من الطامحين. لا من طموحهم في ذاته، بل من احتمال تحققه.
لم يكن عنان رقمًا مجهولًا في دفتر المؤسسة العسكرية، بل الرجل الثاني في قيادة القوات المسلحة إبان لحظة فارقة من تاريخ مصر، لحظة أفول مبارك وسقوطه.
في حضرة المشير طنطاوي، كان هو الأقرب، والأكثر تماسكًا، وربما الأكثر تنظيمًا في التفكير.
لكن القرب من القمة، لم يشفع له حين اقتربت البلاد من أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير.
في كواليس المجلس الأعلى لـ المجلس العسكري، كانت الأسئلة تشتعل بلا إجابات:
هل نترك الميدان لمرشحي الأحلام المدنية؟ أم نعيد تدوير البدلة العسكرية بلونٍ سياسي؟
وكان سامي عنان – كما عرفته عن قرب – يُهيّئ نفسه لدور البديل، الجنرال المدني، الذي يجمع شرعية المؤسسة، وبريق الميدان.
لكن المشير طنطاوي كان حاسمًا، صارمًا، وربما مرعوبًا…
رفض دخول عنان مضمار السباق، لا لأنه لا يصلح، بل لأنه قد يفوز.
وكان ذلك، في عُرف طنطاوي، خطرًا يتجاوز الطموح إلى التهديد.
عرفت اسم عنان منذ سنوات، لكنني عرفته كشخص ذات يوم من أيام ٢٠١١.
كنت في بيروت حين رنّ هاتفي من القاهرة، كان المتصل هو الفنان الكبير محمد صبحي.
سألني: أين أنت؟ وهل يمكنك الحضور غدًا للقاء الفريق سامي عنان؟
وفي الغد، عدت إلى القاهرة، وذهبت من المطار مباشرة إلى وزارة الدفاع.
لم يكن صبحي حاضرًا، لكن الفريق عنان استقبلني وحده، وطلب مني كتابة نص قرار العفو المطلوب صدوره عني، والذي كان محور حديث سابق بينه وبين الفنان محمد صبحي وبمبادرة منه.
كان هذا هو اللقاء الأول برجل ينتمي لنفس مدينتي، المنصورة، ومن عائلة عنان العريقة، ذات الحضور العميق في نسيج الطبقة الوسطى.
في عام ٢٠١٢، حين فُتح باب الترشح لـ الانتخابات الرئاسية، كنت قد أنهيت من تجهيز كل أوراقي، وقدّمتها بالفعل.
وقبل ساعات من إغلاق الباب، تلقيت اتصالًا من صديقين عزيزين، كلٌّ منهما كان يرأس حزبًا سياسيًا، وله في قلبي مكانة.
طلبا مني التقدّم بطلب لمد فترة قبول أوراق الترشح أسبوعًا.
رفضت. ليس من المنطق أو القانون أن أطلب تمديدًا وأنا أتممت أوراقي.
وقتها، ظننت – وربما غضبت – أن القصد هو إتاحة الفرصة لعمر سليمان، الذي ترشّح في اللحظات الأخيرة.
لكن بعد ذلك، تكشّفت الحقيقة.
سامي عنان كان قد التقى الزميلين، ووافق على الترشح باسمهما، لكنه ربط موافقته بموافقة طنطاوي.
وكان طنطاوي – آنذاك – في فايد، على أن يعود السبت، بعد يوم من غلق باب الترشح.
طلب عنان منهما اللقاء، وطلبا مني الصديقان تمديد الموعد لهذا السبب، دون أن يبوحا.
وحين التقياه، جاء رد المشير حاسمًا: لا.
لا لترشح عنان، ولا لحلم لم يولد بعد.
توارى عنان بعد تلك اللحظة، لا انسحابًا، بل ترقبًا.
انتظر المشهد التالي، والجنرال التالي، والفرصة التي ربما تعود.
لكن حين جاء عبدالفتاح السيسي، لم يعد في المشهد متسع حتى للانتظار.
وفي عام ٢٠١٤، عاد الأمل يلوح من بعيد، حين تواترت أحاديث عن نية الفريق عنان الترشح لـ الانتخابات الرئاسية.
وبالفعل، خطا الخطوة الأولى نحو السباق، لكنه توقف فجأة، تحت وطأة ضغوط هائلة.
ولا أحد ينسى ذلك المشهد الذي وقف فيه يُعلن انسحابه، وخلفه يقف الزميل الصحفي مصطفى بكري، في صورة موحية لا تخلو من دلالة…
كأن الضغوط كانت تُترجم بصمت، وأن الرسائل قد نُقلت، وربما حُسمت، من خلال الظهور المتعمد لبكري في خلفية المشهد.
هكذا انتهت محاولة ٢٠١٤، كما انتهت قبلها محاولة ٢٠١٢، قبل أن تبدأ.
ثم جاءت لحظة ٢٠١٨، حين قرر عنان أخيرًا أن يدخل المعركة.
لكن دخوله لم يكن عسكريًا، بل مدنيًا في اختياراته، رمزيًا في خطابه.
فقد أحاط نفسه برموز مدنية لامعة من خارج المؤسسة، في خطوة جريئة أرعبت الدولة العميقة.
اختار الراحل الكبير أستاذ العلوم السياسية الدكتور حازم حسني متحدثًا باسمه، واختار المستشار هشام جنينة نائبًا له.
وكانت تلك الأسماء، في ذاتها، بيانًا سياسيًا لا يقل خطرًا عن إعلان الترشح ذاته.
دفع الجميع ثمنًا باهظًا: هشام جنينة أُصيب وتعرّض لمحاكمات، وحازم حسني أُوقف عن عمله وحُرم من حريته.
وكانت الرسالة واضحة: حتى المدنيون الذين يقتربون من “الاحتمال”، لن يُسمح لهم بالبقاء.
لم تتأخر الدولة في الرد.
بيان غاضب من القوات المسلحة، تلاه اعتقال عاجل، ثم محاكمة عسكرية، فسنوات من النفي داخل الوطن.
ما جرى لم يكن مجرد إقصاء سياسي، بل كان إعلانًا صارخًا أن كرسي الرئاسة لم يعد شاغرًا للسباق، بل منطقة محظورة، عليها لافتة: ممنوع الاقتراب أو التصوير.
سامي عنان، لم يكن الحاكم، ولم يكن المعارض، بل كان “احتمالًا”.
وفي أنظمة الخوف، يُعدم الاحتمال قبل أن يولد.
الجنرال الذي لم يركض نحو الرئاسة، أقصوه منها قبل أن يتقدّم.
مرّ من أمام بابها، فتحه قليلًا، فاغلقوه في وجهه بعنف…
لا على حلمه فحسب، بل على فكرة المنافسة ذاتها.