شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : حكايه رحلتي إلى غزة، ورسالتي للمرشح أوباما

ورقة من مذكّراتي


لم تكن مجرد رحلة، بل كانت روايةً مكثّفةً من ثلاث فصول… ضحك، فخر، وهمّ!
هذا ما اختصر يوماً واحداً قضيته في غزة، ضمن وفد مصري رسمي.


شاركتُ في منتصف تسعينيات القرن الماضي ضمن وفد رباعي، ترأسه عمرو موسى وزير الخارجية آنذاك، وضمّ السفير رئيس إدارة فلسطين بالخارجية، والنائب البدري فرغلي، وكنت أنا رابعهم. أقلّتنا طائرة صغيرة تكاد لا تكفي لسبعة ركاب، من مطار القاهرة إلى مطار العريش، ومن هناك توجهنا بسيارتين إلى معبر رفح، ثم إلى غزة…


الضحك كان أول المراحل. الضحك الذي أشعله البدري فرغلي بتعليقاته المدوية على حجم الطائرة التي وصفها بـ”اللعبة”، وبسخريته من حجمها، واقتراحه أن يسبقنا إلى غزة على “عجلة” زميلنا النائب البورسعيدي الرفاعي حمادة! ثم، اقترح – بمكر بورسعيدي لا يخفى – أن يعتذر عن الرحلة ليحلّ محله النائب الشهير محمود صبح ، والمعروف بضخامة وزنه ، وكأن في الأمر تهديدا من البدري ، بإسقاط الطائرة ، إن اقلت محمود صبح بداخلها فتهوي بنا جميعًا!


أما الجزء الثاني من موجة الضحك، فكان ضحكًا من واقعه قديمة… حين استعدت همسا في اذن عمرو موسى والبدري كانت حكاية مريرة تتصل بشخص السفير الذي كان معنا عليي ذات الطائره و تعود إلى عام 1986، حين زرتُ صنعاء لحضور العيد الفضي للثورة اليمنية. وكان هذا السفير الذي يرافقنا الرحله هو سفير مصر في اليمن


آنذاك، اشتكت لنا مجموعة من المدرّسات المصريات مما تعرضن له من السفير المصري – الذي كان يرافقنا لغزة. وكان معنا في اليمن الصحفي خفيف الظل الاستاذ يوسف الشريف، واتفقنا أن يلاعب يوسف السفير نفسيًا، متقمصًا شخصية “مسؤول كبير” جاء متخفيًا للتحقيق في تلك الشكاوى.
وخلال مأدبة أقامها السفير للصحفيين الخمسه القادمين من القاهره،في منزله بصنعاء ، بالغ المرحوم ، يوسف الشريف في أداء الدور. فتعمد التجهّم، والتلميح، دون تصريح.بوجود شكايات مخجله ضد السفير، فدار السفير على كل واحد منا يسأل: من هو؟ من أرسله؟ ولماذا يهددني؟ فيما كان الجميع يتظاهر بعدم الفهم!


حين رويت هذه الحكاية همسا داخل الطائرة، انفجرت الطائرة الصغيرة ضحكًا، وارتجت كما لو كانت ستسقط… بينما كان السفير يُحدّق فينا حائرًا لا يدري سبب الضحك
المتبادل بيني وبين الوزير عمرو موسي والنائب البدري !
أما لحظة الفخر، فجاءت على بوابة رفح. حيث عطلت السلطات الإسرائيلية دخولنا من المعبر لعشرين دقيقة. فغضب عمرو موسى، ورفع صوته، وهدّد بالعودة إلى القاهرة، معلنًا: “أي مسؤول إسرائيلي سيدخل مصر، لن يُغادر منفذ الوصول، إلا بعد عشرين دقيقة من الانتظار!”.
ولم يكن هذا مجرد انفعال او تهديد من عمرو موسي، بل قرار نُفّذ، وطبق علي بنيامين نتنياهو في اول زياره له للقاهره .


أما الهمّ، فكان عنوان المرحلة الثالثة من الرحلة. رأينا – بأعيننا – كيف تآكل الحلم الفلسطيني من الداخل. فخلال أولى جلسات البرلمان الفلسطيني، كنا شهودًا على ما يشبه المسرحية الحزينة: صراع داخلي، فساد معلن، وانتصار لأهل الثقة على حساب أهل الخبرة.


كان المرحوم ياسر عرفات قد رشّح أبو علاء ( احمد قريع) لرئاسة المجلس التشريعي، رغم أن قامات كبيرة مثل حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي وفيصل الحسيني كانوا الأجدر، والأصدق تعبيرًا عن الضمير الوطني. لكنه – كعادتة – فضّل أن ينتصر لقاعده، الولاء لا الكفاءة.
في غمرة هذا المشهد الرمادي، غادرتُ خلسة من بيت عرفات لحضور لقاء خاص، بدعوة من النائب الفلسطيني حمادة الفراعنة، في النادي الاجتماعي بغزة. وهناك، رأيت فلسطين أخرى… فلسطين الغد.


التقيت هناك بقيادات شابة من جيل الانتفاضة، من فتح مثل مروان البرغوثي، ومن حماس مثل عبد الخالق النتشة، ومن غيرهم من المستقلين. و دار بيننا انتقاد لاتفاق أوسلو،واتفاقات تبرّم في غياب الشفافية، ومخاوف من استيراد أسوأ ما في الأنظمة العربية لصياغة السلطة الوليدة.
في هذا اللقاء، سُمّيت الأشياء بأسمائها. إحدى العبارات التي لفتتني كانت من أحد ممثلي حماس الذي وصف أوسلو بـ”سلام الهيمنة”
و بقي هذا التعبير عالقًا في ذهني حتى وجدته لاحقًا في كتاب الفرنسي ريمون أروان “Paix et guerre entre les nations”، والذي قرأته في 2004.اي بعد قرابه عقد من زيارتي لغزه.


أدركت في تلك اللحظة أن الانقسام لم يكن وشيكًا… بل كان قائمًا، مترسخًا، يتغذى على اليأس والتعب. إسرائيل كانت تصنع هذا الانقسام بدقة السجّان، فتمنح بلاطة إضافية لمن يخضع، وتحرمها عن كل من يقاوم.


تذكرت، وأنا في هذا اللقاء، ما قاله لي مرة رئيس مباحث سجن مصري، إن “أكبر أسباب العنف في الزنازين هو الصراع على موضع القدم! على شبر إضافي… وقبضة من الأرض!”، وأنه كإدارة، لا يتدخل، بل يُترك مثل هذا الصراع دائرا داخل الزنزانه ،ليمنع تفجّره خارج الزنزانة.
احسب انه في فلسطين، حدث الشيء ذاته. إسرائيل، السجان، تركت سجناءها من فتح وحماس يتصارعون على الزنزانة، على “الشرعية”، على “التمثيل”، على وهم “السيادة”… فكانت النتيجة: سجنان داخل سجن.


اذكر اني في عام 2009، كنت في المعتقل، أعيش العزلة الجسدية، لكنني أملك قلماً وروحاً لا تُعتقل. فكتبت خطابًا مفتوحًا إلى باراك أوباما، الشاب الذي زارني قبلها في بيتي بالقاهرة عام٢٠٠٤، حين كان عضوًا في مجلس الشيوخ، بصحبة رئيس لجنة الموازنة بالكونجرس الأمريكي.وكانوا في توقف لساعات بالقاهره في طريق عودتهما من زياره للاردن.


في هذه الرساله وجهت إلي اوباما النداء بالإفراج عن مروان البرغوثي، لا كمجرد سجين، بل كرمز، كأمل، كجسر بين ما ضاع وما يمكن استرداده. و تولى الراحل جمال خاشقجي ترجمة الخطاب، ونشره المرشح وقتها للرئاسه أوباما على صدر صفحته،بالفيسبوك، فتلقفته صحف أمريكا، عديده.
قلت في خطابي لاوباما: “إن مروان هو الوريث الافضل لسلطه عرفات… هو تعبير عن جيل لم يُولد ليخضع أو يساوم… جيل يريد سلاما حقيقيا ،يحرر، لا يُدجّن الساعين اليه”.


وانا اكتب خطابي لاوباما، عُدت إلى تلك اللحظة التي التقيت فيها بمروان وعبد الخالق داخل غزة. وأيقنت أن الأمل الوحيد قد يأتي من داخل السجون الإسرائيلية نفسها، من توافقات وطنية، فوق الزنازين، فوق الخلافات.
في بعض الأوطان… لا يُولد النور إلا من الظلام، ولا تُصاغ الدولة الا
من رحم الازمه، ولا تتوحّد الأيادي ،الا حين يُسقط جدار آخر حيلة للتفرقة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى