مقالات وآراء

نادر فتوح يكتب: زلزال اسطنبول وحلم جيل لم يكتمل

لم يكن زلزال إسطنبول ظهر الأربعاء مجرد اهتزازٍ أرضي… لكنه كان مرآة لزلزال أكبر عاشه جيلٌ بأكمله.
في الواحدة ظهر الأربعاء، ارتجّت المدينة التي تحتضن الجميع، بلا مقدمات ولا رحمة. البيوت اهتزت كما تهتز الأحلام، والنوافذ تصادمت كما تتصادم الأشياء في لحظة ارتباك.

في دقائق معدودة، اكتظت الشوارع بوجوه باهتة: أطفال يصرخون، نساء يبكين، رجال يهرولون. بعضهم خرج بملابس النوم، وآخرون لم يجدوا الوقت ليحملوا حتى هوياتهم الشخصية، وبعضهم خرج بلا أحذية، وربما بلا وعي.

الهزات الارتدادية لم ترحم أحدًا.
على مدار اليوم، كانت الأرض تذكّرهم بأنها لم تهدأ بعد. كل ارتجاج خفيف كان كافيًا للتذكير برعب ثقيل.
المساجد فتحت أبوابها، لا للصلاة فقط، بل للحماية والهدوء.
المدارس ألغت احتفالاتها بيوم الطفل وفتحت بواباتها للمواطنين.
الحدائق تحوّلت إلى مخيمات، وصارت ملاذًا مؤقتًا لمئات الهاربين من احتمالات الموت.

لكن خلف هذا المشهد، كانت هناك حكاية أخرى…
زلزال من نوع مختلف.

زلزال لم تُسجّله أجهزة الرصد، لكنه حُفر في قلب جيل كامل من الشباب العربي، والمصري على وجه الخصوص.
جيل عاش زلازل مدمّرة، ليست فقط بفعل الطبيعة، بل زلازل في الحياة.

جيل لم يُولد وقت زلزال مصر 1992، لكنه شهد زلازل أشد قسوة…
انقلاب عسكري أطاح بحلمه، مجازر أحرقت ذاكرته، وسجون التهمت عمره، وأحكام جائرة حوّلت الأحلام إلى آلام، ومآسي بين زلزال العجز والقهر.

جيل تربّى بين جدران الوطن، بين دفء البيت والشارع، بين صوت الأم وحنين الأسرة، بين ضجيج الحياة وحب الوطن.
كان يحلم، يبني، يخطّط، يتخيل نفسه في بلده، يشارك في صنع مستقبله.

كانوا في بيوتهم، مع أسرهم، في سكينة وأمان… ثم فجأة، وجدوا أنفسهم غرباء في بلاد لا تشبههم.
هربوا من جحيم السياسة، لكنهم اصطدموا ببرودة الغربة.
فرّوا من سجون تُبنى، إلى بلاد لا يفهمون لغتها.
عاشوا على حدود وطن لم يعد كما كان، وحلم لم يعد مكتملًا.

ومن قلب الحدث، التقيت شابًا مصريًا يقف مذهولًا بعد الزلزال..
قال لي “أنا مكنتش مولود أيام زلزال مصر ٩٢.. لكن شُفت زلازل تانية.
شُفت بلدي وهي بتتقلب قدامي،
شُفت الثورة وهي بتندفن،
وشُفت صحابي وهم بيتفرّقوا ما بين السجن والغربة”.

كلامه كان موجعًا أكثر من اهتزاز الأرض.
كان يحكي عن زلزال أكبر..
زلزال الغربة،
زلزال الفُقد،
زلزال العمر اللي خرج من مساره فجأة.

جيل كامل من الشباب بيعيش على الحافة..
مش بس حافة الخوف من الزلازل الأرضية،
لكن كمان حافة الانتظار:
هل هنقدر نرجع؟
ولا هنكمل هنا؟
هل لسه فيه وطن نستحقه؟
وهل فيه حلم ممكن يكتمل؟

زلزال إسطنبول كان عنيفًا، نعم..
لكنه بالنسبة لهؤلاء، مجرد صدى لزلزال أكبر، بدأ منذ سنوات.. ولم يتوقف.

زلزال إسطنبول كان لحظة كاشفة.
كشف الوجع، والحنين، والوحدة..
لكنه كشف أيضًا أن هذا الجيل – رغم كل اللي شافه – لسه واقف.
مهزوز؟ آه.
خايف؟ ممكن.
لكن لسه واقف، وده في حد ذاته… معجزة.

هذا الجيل لم يسقط، لكنه تأرجح طويلًا..
وكل ما نرجوه الآن، أن يكون هذا الزلزال الأخير.
أن تهدأ الأرض، وتهدأ معها الأرواح.
أن يعود إلينا، الوطن الذي يشبهنا، ويحلم بنا كما نحلم به.
أن يعود الحلم لمكانه، والناس لأهلهم، والقلوب لطمأنينتها.
فالوطن ليس مجرد مكان نغادره..
لكنه حُلم يمسنا كلما حاولنا نسيانه،
ومكان نشتاق إليه كلما هزّتنا الأرض.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى