مقالات وآراء

الحبر عبد الوهاب يكتب: قُبلة على جبين دار العلوم

لم يكن التحاقي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة في أوائل الثمانينات من القرن الماضي مخططًا له، ولكنها الأقدار التي حملتني إليها، مثلما تحمل الرياح الهوج طائر نورس إلى مرافئ الأمان! لكنني أذكر جيدًا أنني فضّلت الدراسة بصفة عامة في جامعة القاهرة على الدراسة في كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية بجامعة جوبا، بجوبا، مرددًا قول علي الجارم:


بلادي جنة الدنيا وروض ربيعها الأخضر
تعالى الله باركها وأجرى تحتها الكوثر..

جئت أنا وزملائي إلى القاهرة ذلك الشتاء زحفًا بالقشَّاش، (قطار الصعيد)، الذي كان يمسح المدن بتأنٍ مملٍ كأنه يريد أن يطبع معالمها في أعيننا! وبعد انتقال سريع من “7 شارع الهلباوي” في أول المنيل، إلى “1 جاد عيد” جوار ميدان الدقي وجدنا دار العلوم قد انتقلت من مقرها القديم في “عابدين” إلى جامعة القاهرة في “بين السرايات”.

كلية عريقة أسسها علي باشا مبارك عام 1872م! أول ما تجلس مستمعًا إلى علمائها تدرك أنك في “بحر” من العلوم، لا “دار” لها فقط! تتلقفك أقسامها السبعة بعلومها حتى تشفق على عقلك من أن ينفجر. ففي قسم النحو والصرف والعروض أساطين يجب التواضع عند مقاماتهم، منهم د. محمد عيد، صاحب النحو المصفى، وأمين السيد، وشعبان صلاح، وكشك. وفي قسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن عليك أن تقف إجلالًا للدكتور رجاء جبر وهو يطوف بك في بساتين اللغة الفارسية ود. علي عشري ورفاقهما، وفي قسم الدراسات الأدبية عليك أن تحذر الأدب الجاهلي لـ “د. علي الجندي”، وترفع القبعة للدكتور أحمد هيكل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للثقافة والإعلام. وماذا عن د. الطاهر أحمد مكي! ذاك أستاذ وشاعر وكاتب يجعلك تعيش في الأندلس بين شلالات قرطبة وبساتين إشبيلية! لله دره وهو يمجّد أديبنا الراحل الطيب صالح. وفي علم اللغة لا تملك إلا أن تندهش وتنهل من علم العلامة الدكتور محمد كمال بشر، الذي أصبح رئيسًا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. وفي قسم الشريعة عليك أن تنصت جيدًا للدكتور البلتاجي. وفي قسم الفلسفة الإسلامية ستعرف ماهية الفلسفة الإسلامية وعمقها مع الدكتور عبد الحميد مدكور. وفي قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ستغرق في عِلم علمين: د. حبيبة، والدكتور أحمد شلبي!

لكل ذلك، وغير ذلك، لا عجب أن رأس كثير من علماء دار العلوم مجمع اللغة العربية، وتسنّموا كثيرا من الوزارات، ولا عجب أن تلقّفت الجامعات ووزارات التربية خريجيها، ولا عجب أن برز منها كتاب، مثل محمد عبد الحليم عبد الله، وشعراء أثّروا في الشعور الجمعي للأمة العربية، منهم علي الجارم، وهاشم الرفاعي، ومحمود حسن إسماعيل، من مصر. ومن السودان إدريس محمد جماع والهادي آدم، ومحمد محمد علي والشريف زين العابدين الهندي.

ومن عجب يدعو للإحباط أن خاطبنا عميد الكلية، الدكتور أحمد هيكل في آخر محاضرة لطلاب البكالوريوس ذلك العام بقوله: ” يا أبنائي، نحن لم نعلمكم العلوم حتى الآن، لكننا أعطيناكم مفاتيحها فقط، وبعد التخرُّج سيختار كل واحد منكم العمل حسب ميوله، بعضكم سيذهب للتدريس، وبعضكم سيذهب للإعلام”.
رحم الله من ارتحل من أساتذتنا في دار العلوم، وأطال الله أعمار من يعيش بيننا، وجعل علمهم صدقة جارية لهم، تبني أمجاد أمة. وحفظ الله دار العلوم ومصر أرض الكنانة، حكومة وشعبًا، ورعاها، وأسبغ عليها من نعمه الظاهرة والباطنة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى