د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكراتي يوم استقالتي من رئاسة اتحاد القوى الوطنية

ليله 22 يناير 2024
كانت ليلة شتوية مطرزة بالصمت والبرد، أطللتُ من شرفه منزلي في إسطنبول.
فوجدت قنافذ صغيرة تتقافز بين أعشاب الحديقة، تتجمع لا لتتشاجر، ولا لتفرّ، بل لتحتمي من زمهرير البرد، دون أن تُزهق أرواح بعضها البعض بأشواكها.
اقترب بعضها من بعض، ثم تراجع قليلًا، ثم وقف في تلك “النقطة الذهبية” التي لا تقتل، ولا تزيد الإحساس بالبرد. ومن هذا المشهد تنبهت .فنصف المسافة… هي المسافة المثلى.
القنفذ، ذاك الكائن الذي لم أعرفه من قبل إلا في كتب الأطفال. حتي اني كنت أظنه حيوانًا خرافيًا، مثل طائر العنقاء، أو أسطورةً من أساطير بلاد لم نزرها .
فلم أره يومًا في مصر، لا في حيّ باب_الشعرية، ولا في الزمالك ولا في حدائق البرلمان، ولا حتى في ظلال
حديقة حزب الوفد القديم.
التقيته صدفةً، هنا في تركيا، كأنما شاءت الأقدار أن اري وأتعلم في منفاي ما لم اراه و أتعلمه في وطني: السياسة، كشتاء القنافذ، تحتاج إلى الدفء… دون أن تنسى خطورة الأشواك.
نظرية القنفذ، كما سماها علماء النفس، ترسم مشهدًا أكثر عمقا وواقعية من أي خطاب سياسي: ففي أقسى ليالي الشتاء، يقترب القنفذ من قرينه
، كي يتدفأ، ثم يتراجع سنتيمترات معدودة،
لأن أشواكه تجرح. وهكذا، يتعلم الجميع كيف يعيشون معًا، دون أن يؤذي بعضهم بالبعض …
نعم اعرف
- ليس كل البشر بلا أشواك،
- وليست كل الأشواك بلا دفء.
السياسيون في الغربة كثيرًا ما ظنّوا أن الوحدة تعني الذوبان، وأن الشراكة تقتضي التلاصق والتشابه في كل شيء. إيجابي وسلبي
لكن الحقيقة المؤلمة أن كثيرًا من التحالفات انهارت، لا لأن العدو أقوى، بل لأن الأصدقاء اقتربوا أكثر مما ينبغي، فانغرست أشواك بعضهم في خاصرة الفكرة، بفعل قلة الخبرة في السياسة أو ضعف القدرة على تقدير المسافة.
تأمل القنفذ يكشف أن السلوك الغريزي قد يهزم أعقد النظريات السياسية… الفرد لا يملك أن يعيش وحده،
لكنه لا يحتمل أن يعيش ملتصقًا بآخرين لا يحسنون إلا إلا لغة الشك و الطعن وهم يدّعون الحضن.
الحبّ، كالسياسة، لا يكتمل إلا إذا احترم مساحتك. وعرف قدرك وقدرتك
الحقيقة الثانية التي حملتني على قرار الاستقالة في هذا اليوم 22 يناير 2024
كانت مستمدة من “نظرية القنفذ والثعلب”، فذاك فصل آخر من فصول الحكاية…
فالثعلب يعرف الكثير من الطرق، أما القنفذ فلا يعرف إلا طريقًا واحدًا، طريق وجودي، لا يملك مهارة التراجع عنه.
يقفز دائما باتجاه الامام
عندما يشعر بالخطر وربما يكون كل الخطر هو أمامه
في شبابي، كنتُ معجبًا ببراعة ثعالب السياسة، وتتلمذت في مدارسهم، وعلى رأسهم أستاذي فؤاد باشا سراج الدين وأستاذي النقيب أحمد الخواجة. وبعد كل ما خضتُه من معارك ومعتقلات ومنافي، بت أُحبّ ذكاء الثعالب وعنـاد القنفذ…
الوطن، فكرة واحدة لا نناور بها، ولا نبيعها على مفارق الطرق.
الحياة السياسية تحتاج إلى احترام القواعد الجبهوية. فالشراكة الوطنية لا تعني التطابق في كل شيء أو التلاصق المؤذي، ولا تعني أيضًا التنافر المدمر، بل تعني أن نكون قريبين بالقدر الذي يمنحنا الدفء، وبعيدين بالقدر الذي يحمينا من الأشواك. كما قال الإمام علي بن أبي طالب: “لا تكنْ يابسًا فتُكسر، ولا لينًا فتُعصر”. هي حكمة القنفذ تتجلى في السياسة كما تتجلى في الحبّ، وفي الوطن كما في الحلم، وفي الحذر كما في الحميمية…
فنصف المسافة بيننا، قد تكون هي المسافة الوحيدة التي تبقينا معًا دون أن نهلك بعضنا البعض.
غادرت الشرفة متخذًا بكل الحب قرار الاستقالة من رئاسة الاتحاد، أملًا أن يدرك الشركاء مزيدًا من ذكاء الثعالب وخبرة وفطرة القنافذ.