
يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العبث بقواعد النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة نفسها. فقد دخل في صراع اقتصادي حاد مع الصين دون أن يتراجع خطوة إلى الوراء.
وبالمثل، فإن الولايات المتحدة التي كانت قد شجعت على تأسيس الاتحاد الأوروبي لمواجهة الاتحاد السوفيتي، باتت اليوم تعتبره منافسًا لها. فمن ناحية، يُظهر ترامب وجهة نظر انعزالية تقول بأنه لا ينبغي لنا أن نتدخل في العالم، ومن ناحية أخرى، يُظهر وجهة النظر القائلة بأنه” إذا كنا نحمي بعض البلدان، فيجب أن نمتلكها“.
وهذا يذكرنا بسياسات القوة الاستعمارية القديمة التي شهدناها في القرن العشرين. كما أن عدد القضايا التي يدّعي ترامب حمايتها وامتلاكها مرتفع أيضًا: كندا وغرينلاند وقناة بنما، وقناة السويس وغزة وأوكرانيا.
في أوائل عام 2025، أدلى دونالد ترامب بتصريحات استفزازية ألمح فيها إلى ضم كندا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وادعى ترامب، مازحًا، أن الحدود بين البلدين مصطنعة، وأن كندا ستكون «في وضع أفضل» اقتصاديًا وعسكريًا إذا أصبحت الولاية الأمريكية الحادية والخمسين.
وقال: «كندا عمليًا هي بالفعل جزء منا. فلماذا لا نجعل ذلك رسميًا؟» وقد أثارت هذه التصريحات ردود فعل شديدة من الأحزاب السياسية الكندية، التي رفضتها بشدة. واتهمت هذه الأحزاب ترامب بأنه يعيش حنينًا استعماريًا ويتجاهل آراء الشعب الكندي. وساهمت تصريحات ترامب في تصاعد الخطاب القومي خلال الانتخابات الكندية، مما ساعد الحزب الليبرالي على الفوز مرة أخرى.
بعد أن حاول ترامب إجبار كندا على الاتحاد مع الولايات المتحدة، يسعى الآن لشراء جزيرة غرينلاند، التابعة للأراضي الدنماركية، وضمها إلى الأراضي الأمريكية.
ورغم أن هذا العرض يبدو مفاجئًا، فإن الولايات المتحدة سبق أن اشترت أراضي من دول أخرى، مثل لويزيانا من فرنسا، وفلوريدا من إسبانيا، وألاسكا من روسيا. للولايات المتحدة مصالح استراتيجية في غرينلاند، خصوصًا لموقعها في منطقة القطب الشمالي، الذي يكتسب أهمية في مجالي التجارة والدفاع (إذ يقع فيها قاعدة «ثول» الجوية الأمريكية).
وتزخر الجزيرة باليورانيوم، والنفط، والغاز، والذهب، والعناصر الأرضية النادرة. وقد وصفت الدنمارك هذا الاقتراح بأنه «سخيف» ورفضته، بل وتم إلغاء الزيارة الرسمية التي كان من المقرر أن يقوم بها ترامب إلى الدنمارك. ومع ذلك، تظل غرينلاند تحافظ على أهميتها في سياق المنافسة العالمية، ولا تزال على طاولة ترامب.
بينما يسعى ترامب إلى تعزيز نفوذ بلاده في التجارة العالمية ووقف صعود الصين، بدأ يطالب بحقوق في قناتي بنما والسويس. فقد ادعى أن قناة بنما قد بُنيت في الأصل من قبل الولايات المتحدة، وأن تسليمها إلى بنما عام 1999 كان خطأً يجب تصحيحه عبر «استعادتها». كما انتقد الرسوم الحالية التي تُفرض على السفن الأمريكية، واعتبر أنها تمنح الصين ميزة غير عادلة.
وقد رفضت حكومة بنما هذه الادعاءات، مشددة على سيادتها الكاملة على القناة، ومؤكدة أن القناة تُدار بشكل مستقل وعادل. وأضافت: «نحن من نحمي كلتا القناتين، وبالتالي فإن فكرة الاستخدام المجاني غير صحيحة .“
رغم أن الولايات المتحدة لم تساهم في بناء أو حماية قناة السويس، صرّح ترامب بضرورة عبور السفن العسكرية والتجارية الأمريكية من قناة السويس، الممر المائي العالمي المهم، بشكل مجاني. وطلب من وزير الخارجية، ماركو روبيو، إجراء تحرّكات دبلوماسية بهذا الشأن. وقد رفضت الحكومة المصرية هذا الطلب، مؤكدة أن جميع السفن تُفرض عليها رسوم عبور بالتساوي، ضمن إطار الاتفاقيات الدولية.
وقد أعادت تصريحات ترامب هذه إلى الأذهان فترة الاستعمار التي ساهمت في احتلال مصر وانهيار الدولة العثمانية. فبعد احتلال بريطانيا لمصر، تقرر تفكيك الوحدة العثمانية، وظلت بريطانيا تسيطر على قناة السويس حتى عام 1956.
أما في غزة، فرغم عدم امتلاك ترامب لأي حق قانوني أو تاريخي، فقد صرّح بنيّته «تمليك» غزة بعد إفراغ سكانها. وعلى عكس مزاعمه الأخرى، فإنه في هذه الحالة لا يريد حماية غزة، بل يدعم إبادة إسرائيل لسكانها ليستولي عليها دون مقاومة. وفي أوكرانيا، تبنّى ترامب منطقًا مشابهًا، مدّعيًا أن الولايات المتحدة أنفقت أموالًا كثيرة لحماية أوكرانيا، لذا يجب أن تؤول نصف ثرواتها لأمريكا.
ومع ذلك، لم يقدّم أي ضمانات أمنية لأوكرانيا، بل ضغط لتسليم شبه جزيرة القرم، وهي أرض أوكرانية، لروسيا وكأنها ملكه، ولا تزال المفاوضات حولها مستمرة.
وهكذا، يكشف ترامب عن عقلية استعمارية مغلّفة بثوب المصالح، يتعامل مع الدول والشعوب كسلع في مزاد نفوذه، غير عابئ بالسيادة، ولا بالتاريخ، ولا بحق الشعوب في تقرير مصيرها، فهو يسعى للتحكم مع المواقع الاستراتيجية حول العالم وكأنها ممتلكات شخصية، يسعى لامتلاكها أو فرض وصايته عليها، سواء كانت حقًا له أم لا.