مقالات وآراء

د/ عمرو هاشم ربيع يكتب : تسريبات” عبد الناصر ..هل هي مبرر لموجه أخرى من التطبيع

مستحوذة على أكثر من 10 مليون مشاهد، ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي حديث مدته 17 دقيقة بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبين الرئيس الليبي معمر القذافي، اللقاء بين الرئيسين والذي كان في شهر أغسطس 1970، يستغله الكثيرين اليوم للترويج لأسباب تبدو إلى الآن مبهمة.

فالرئيس عبد الناصر يقول لمستمعه، الدول العربية تزايد على مصر، وتلك الدول ترى مصر دولة إنهزامية. وقال لو دخلنا حرب جديدة مع إسرائيل تكون أثارها تفوق أثار نكبة 1948، وأن مصر تحتاج لدعم مالي من العراق وليبيا وسوريا واليمن الجنوبي للحشد للحرب. وقال عبد الناصر إذا كان هناك من يريد أن يكافح ويناضل فليكافح ويناضل، نحن نريد أن تكون هناك أهداف محددة للحرب مع إسرائيل بدلا من الشعارات الرنانة .. “حلوا عنا”. 

التصريح السابق ورد في قناة “ناصر” على اليوتيوب، والتي تأسست في يناير 2018، ويرأسها عبد الحكيم عبد الناصر، وقيل أن هذا الحديث مودع بمكتبة الأسكندرية ضمن مشروع رصد خطب ومقابلات الرئيس جمال عبد الناصر، والذي أودعته وباقي تراثه هناك د. هدى عبد الناصر. 

د. هدى عبد الناصر وعبد الحكيم عبد الناصر لم ينفيا كلام والدهما، ومكتبة الإسكندرية نفت أن تكون من سرب المحادثة مع القذافي. لكن على ما يبدو أن وراء هذا الحديث عدة أمور لا يجب أن يغفلها عاقل.

كلام مقتطع من سياقه وبعضه مغلوط

أولا، أن الحديث الوارد كانت مدته 17 دقيقة، وكان القذافي فيها مستمع ولم يرد بكلمة واحدة، ما يجعل هناك غرابة في صمته طوال هذا الوقت. كما أن هذا الحديث المبث مُجتزأ، بمعنى أنه لم يعرض من بثه إلا لقطات مدتها تلك الدقائق، ما يجعل السياق غير معروف. 

ثانيا، أن الحديث الوارد لم يقُل فيه الرئيس جمال عبد الناصر أنه سيقوم بمبادرة صلح أو تطبيع علاقات مع إسرائيل، وإن ما ورد عنه هو أن سيناء هي من تعنيه فقط. 

تمرير حائط الصواريخ

ثالثا، أن كلام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تلى عرض مبادرة سلمية لوقف إطلاق النار من وزير الخارجية الأمريكي وقتئذ وليام روجرز، وكانت مصر حينئذ لم تقو على بناء صواريخ مضادة للطائرات في منطقة شرق القناة، ومن ثم فإن الحديث الذي ورد على لسان “ناصر”، جاء في إطار قبوله لمبادرة روجرز، بمعنى أنه لم يكن أملا حقيقيا في صلح مع إسرائيل،

بل كان نوع من الخديعة لبناء حائط الصواريخ، وكان وقته تحديدا هو ما بين موافقة مصر وإسرائيل على قبول مبادرة روجرز(4 أغسطس 1970) وسريان مفعول وقف إطلاق النار في 7 أغسطس 1970، وإلا كانت ستتهم مصر بخرق اتفاق الهدنة لو تم بناء الحائط عقب تنفيذ وقف إطلاق النار. 

رابعا: في التحليل العسكري الإسرائيلي برز خلال تلك الفترة كلاما للمحلل حاييم هارتزوج، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للكيان الصهيوني. وقد ذكر “هرتزوج” أن عبد الناصر عندما ذهب لقبول مبادرة روجرز كان مقصده الرئيس هو خديعة إسرائيل ببناء حائط الصواريخ على الضفة الغربية لقناة السويس.

هذا التحليل من الجانب الصهيوني، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن كلام عبد الناصر لم يكن سوى مناورة مصرية، حتى يتسنى للمقاولين العرب أن تقوم ببناء الحائط الخرساني لمنع هجمات الفانتوم الإسرائيلية غرب قناة السويس، والتي وصلت جوا إلى محافظات صعيد مصر. 

سياسة مصرية تدحض إفتراءات المروجين

خامسا: أن مصر لو كانت تريد أن تقوم بصلح حقيقي مع الجانب الإسرائيلي، وتُنحى الدعم المطلق لها للقضية الفلسطينية، ما كان لها أن تعقد قمة الخرطوم عقب حرب يونيو 1967 مباشرة، وهي القمة التي خرجت بالقرارات الشهيرة التي حملات اللآت الثلاثة لا للصلح لا للاعتراف لا للتفاوض، أو ما بات يختصر ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. 

سادسا: إذا كانت مصر تقصد بتصريح 4 أغسطس 1970 عقد النية على بيع القضية الفلسطينية والترويج لسلام مع إسرائيل، لما قامت بوضع خطة جرانيت لاقتحام الممر الملاحي لقناة السويس في عهد الرئيس عبد الناصر، وهي الخطة التي تم تنفيذها في حرب أكتوبر 1973. 

سابعا: في سبتمبر 1970 عقدت في القاهرة قمة عربية لمواجهة تصفية المقاومة الفلسطينية على يد ملك الأردن، هنا يصبح التساؤل لو كانت مصر تقصد الكلام الذي صرح به عبد الناصر أمام القذافي، أكان يمكن لعبد الناصر أن يقوم بدعم بقاء واستمرارية المقاومة والحفاظ عليها في مواجهة أحداث أيلول الأسود التي شهدتها الأردن!!. 

ثامنا: في التأكيد على أن ما ورد من كلام جمال عبد الناصر لم يكن سوى مراوغة وخداع تكتيكي، من المهم الإشارة إلى ما جرى عقب وفاته من سياسات اتبعها الرئيس الراحل أنور السادات. فخلال عهد “السادات” جرت حرب أكتوبر1973،

ولو كان السادات يدرك أن عبد الناصر جادا فيما قال لما خاض تلك الحرب التي استعد لها الجيش قبل وفاة عبد الناصر. وعقب الحرب قام السادات بتوقيع اتفاقيتى كامب ديفيد في سبتمبر 1978، ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في مارس 1979، وهنا يبدو السؤال المنطقي، لماذا لم يقوم السادات بإخراج ذلك التسجيل الصوتي للرئيس عبد الناصر لتبرير مسلكه السلمي خلال تلك الفترة. المؤكد أن الرجل كان يدرك أن كلام “ناصر” وقتئذ كان للمناورة وكسب الوقت، وإلا لاستثمر هذا الحديث منذ زيارته للقدس 1977 وما تبعها. 

ترويج لثقافة التطبيع

وهكذا بدا مشهد وسياق كلام عبد الناصر الذي اختلع من سياقه وبيئته عمدا. ويبدو أن هذا الخلع قُصد به الاستعداد لتمرير اتفاقات تطبيع جديدة يجرى الاستعداد لها ونحن على موعد لاستقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي سيزور المنطقة خلال أيام قليلة، حيث يتوجه للإمارات وقطر والمملكة العربية السعودية.

ترامب هو عراب الاتفاقات الإبراهيمية التي أتت بالتطبيع بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين في أغسطس ثم سبتمبر 2020 على الترتيب. ما أذيع يُستغل اليوم لتبرير موجه أخرى من التطبيع تبدو تلك المرة مع السعودية وسوريا التي أعلن أحمد الشرع مؤخرا استعداده لتلك الخطوة، علاوة بالطبع على أنها دعوة للتنكيل بعبد الناصر كرمز مصري وقومي عربي. حديثنا السابق لا علاقة له بالناصريين أو بالقوميين ، بل بمصر قاطبة، مصر الدولة الرائدة وصاحبة الريادة في قيادة الأمة العربية.

هنا يُراد من قبل بعض نظم الحكم العربية -وقنواتها الفضائية- الترويج لكلام عبد الناصر أنف الذكر، كي ينظر إلى مصر كأول دولة مطبعة و”مستسلمة” وأنه ليس عيبا أن يقوم الأخرين مثلها بعد عدة عقود بذلك، وفي الطريق إلى ذلك الهدف لا مانع من النيل من قادة مصر ورموزها الذين قادوا تلك المسيرة القومية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى