
هل يجب أن نحترم رأي الأغبياء؟
سؤال يبدو في ظاهره استعلائيًا، لكنه في جوهره وجودي. لأنك إن لم تحترم رأيهم، فستصحو ذات صباح لتجدهم قد اختاروا لك قاتلك، وباركوا جلادك، وصفّقوا لمَن سرق حياتك باسم “الإرادة الشعبية”.
في زمن يتحكم فيه الإعلام، لا الوعي؛ وفي وطن صارت فيه الانتخابات شكلاً ديمقراطيًا يُخفي استبدادًا بدائيًا؛ يصبح الجهل السياسي عملة السلطة، وتصبح الأغلبية الجاهلة هي “الأداة” التي تحكمك… دون أن تدري.
1. من صندوق الاقتراع إلى صندوق القمع:
الديمقراطية وُلدت كحلم لتحرير الإنسان من سلطة الفرد. لكنها تحوّلت في بلادنا إلى أداة لشرعنة الطغيان حين تقع بأيدي الجهلة. ومن هنا، نفهم كيف استطاع عبد الفتاح السيسي، وهو عسكري فاشل بلا تاريخ قتالي مشرّف، أن يقود أكبر دولة عربية.
لقد جاء بانقلاب عسكري على أول تجربة ديمقراطية حقيقية في تاريخ مصر الحديث. لم يكن يمتلك الشرعية، فاخترعها. لم يكن يمتلك الكفاءة، فغطاها بالخوذة. لم يكن يمتلك الرؤية، فسدّ الطريق أمام من يملكها. لكنه امتلك شيئًا واحدًا: مفاتيح الغوغاء.
2. حين يصبح الجهل مشروعًا سياسيًا:
السيسي لم ينجح لأنه ذكي، بل لأنه فهم اللعبة. علم أن الطريق إلى السلطة يمر عبر تجهيل الشعب، لا تثقيفه. عبر تأليه المؤسسة العسكرية، لا محاسبتها. عبر تحويل الإعلام إلى طبول جوفاء، لا منابر وعي.
وهكذا، حين غاب العقل الجمعي، حضرت الشعارات.
“تحيا مصر!”، صرخ بها الملايين، بينما كانت مصر تموت.
“أمر الجيش لا يُناقش!”، قالوا، وكأنّ مصر قد تحوّلت إلى ثكنة لا وطن.
هكذا صعد الطاغية على أكتاف من لا يعرفون معنى الوطن… لكنهم يظنون أنهم يحبونه.
3. الجهلة لا يصنعون الاستبداد… لكنهم يصفقون له:
لم يكن السيسي أول من يفعلها، ولن يكون الأخير. كل مستبد عرف أنه إن أراد أن يبقى، فعليه أن يُرضي الأغلبية الجاهلة، لا أن يقنع الأقلية الواعية. لأن الأغبياء لا يسألون، بل يهلّلون. لا يُناقشون، بل يتبعون.
ومن هنا، تصبح أصواتهم أقوى من أصوات الفلاسفة، وتأثيرهم أخطر من أي كتاب. الجهل لا يخلق الطغيان، لكنه يحرسه. يحمله على الأعناق، ويدعو له على المنابر، ويخوّن من يعارضه.
4. هل نحترم الأغبياء إذًا؟
نعم… لكن لا احترام التقدير، بل احترام الضرورة.
نحترمهم كقوة كامنة، لا كعقول فاعلة. لأنهم – بكل بساطة – يشكّلون غالبية ناخبة. قوة تصنع مصير الأمم. لذلك، تجاهلهم هو انتحار ناعم، واحتقارهم هو هدية مجانية للطاغية.
الاحترام هنا يعني الذكاء في مخاطبتهم، لا الغباء في السكوت عنهم. التواضع في النزول إلى لغتهم، لا الترفّع فوق جهلهم. لأن العاقل الذي يرفض مخاطبة الجاهل، يتركه فريسة للشيطان.
5. الفاشية ليست في الجيش… بل في عقول خضعت له طوعًا:
الفاشية الحقيقية لا تبدأ بالدبابات، بل بالعقول المُبرمجة. حين تُقنع شعبًا أن الأمن أهم من الحرية، وأن العَلم أهم من الدم، وأن الجوع يمكن احتماله مقابل “الكرامة العسكرية”… تكون قد بنيت سجنًا كبيرًا، يُحب فيه السجناء جدرانهم.
هكذا فعل السيسي. لم يحتج لقتل الملايين. بل اكتفى بخنقهم إعلاميًا، وتضليلهم تربويًا، وتهجيرهم ذهنيًا. جعلهم يرون الفشل “إنجازًا”، والهزيمة “صمودًا”، والتبعية “استقلالًا”.
6. ماذا نفعل؟
لا فائدة من لعنة الأغبياء. بل الفائدة في كسر دائرة الجهل.
عليك أن تحاورهم، لا أن تحتقرهم. أن تعيد تعريف الوطنية لهم، لا أن تلعن وطنهم. أن تصرخ بالحقيقة في وجوههم، حتى لو سخروا منك أولاً.
العاقل الذي يصمت، أشد خيانة من الجاهل الذي يصفّق. والمثقف الذي يختبئ، أكثر خطورة من الجندي الذي يُطلق النار.
في مصر، حكمنا جندي لا يقرأ… لأنه عرف أن من يحكمهم لا يقرأون.
واستعبدنا طاغية بلا شرعية… لأنه عرف أن الغوغاء تصنع شرعية بديلة.
علينا أن نحترم رأي الأغبياء، لا لأنهم على حق، بل لأنهم – للأسف – هم مَن يقرر مَن يملك الحق في بلادٍ غابت عنها العدالة، وركعت فيها العقول.