الحكم بالمؤبد لا يمحو وجع ياسين ولا يطوي خيانة المباحث والمسئولين

أصدرت محكمة جنايات دمنهور حكمها بالسجن المؤبد بحق المدان في واقعة الاعتداء على الطفل ياسين داخل أسوار مدرسة الكرمة بمحافظة البحيرة بعد شهور طويلة من الغموض والتراخي والتواطؤ الذي رافق مجريات التحقيق في القضية التي شغلت الرأي العام المصري منذ بدايتها
بعد تجاهل الكنيسة التي تنتمي إليها إدارة المدرسة كل المناشدات الموجهة إليها من الأسرة والمجتمع المحلي للتحرك أو التحقيق الداخلي في الواقعة أو دعم الأسرة نفسيًا ومعنويًا مما فسره كثيرون على أنه صمت غير مبرر أسهم في مضاعفة معاناة الطفل وترك الأسرة تواجه القضية وحدها
وقد انطلقت جلسات المحكمة بعد تأخر استمر عامًا كاملًا وجاء الحكم أخيرًا في ديسمبر 2024 بالسجن المؤبد للمدان دون الإشارة في الحيثيات إلى الأطراف الأخرى المتورطة في محاولات إغلاق الملف أو التستر على الجريمة أو إخفاء الأدلة وهو ما أثار موجة استياء وغضب عارمة في صفوف الرأي العام
فشلت أجهزة الأمن في تقديم أي تحريات أو معلومات فنية دقيقة تساعد في تسريع سير التحقيقات وظلت النيابة وحدها تسير ببطء وسط ضغوط اجتماعية وسياسية ومعاناة نفسية تعصف بأسرة ياسين التي أُجبرت على متابعة القضية بتكتم وحذر
أوضحت وثائق المحكمة أن إصدار الحكم جاء بعد جلسات استغرقت شهورًا طويلة رغم أن الوقائع كانت واضحة منذ اللحظة الأولى إذ بدأت فصول الحادث المؤلم في فبراير من عام 2024 حينما توجه والد الطفل إلى مركز شرطة دمنهور للإبلاغ عما تعرض له نجله من اعتداء داخل مدرسته غير أن محاولة توثيق البلاغ قوبلت بالتجاهل وعدم التعاون من رجال الشرطة
أشار سياق التحقيقات إلى أن الشرطة لم تتجاوب مع أكثر من عشرة طلبات رسمية أرسلتها النيابة العامة خلال ما يزيد عن ستة أشهر كاملة لإجراء التحريات الأولية حول الواقعة ما تسبب في تأخير سير القضية وجعل الأدلة تتآكل مع الوقت وهو ما أثار تساؤلات عديدة حول نوايا الجهات المختصة في كشف الحقيقة
أكدت النيابة أنها اضطرت إلى الانتظار حتى شهر ديسمبر من العام ذاته ليستجيب العقيد المسؤول عن ملف التحري ويُدعى مصطفى الصيرفي للمثول أمام النيابة ليُسأل عن أسباب التأخير الطويل فرد بأنه لم يكن مكلفًا خلال تلك الفترة بأي مهام تتعلق بالتحريات مما زاد من حدة الغضب لدى أسرة الضحية
استدركت النيابة إجراءاتها بطلب استدعاء المتهم الذي تأخر عن الحضور أكثر من عشر مرات خلال الفترة الممتدة من فبراير إلى ديسمبر 2024 قبل أن يظهر للمرة الأولى يوم 18 ديسمبر زاعمًا أن حالته الصحية حالت دون حضوره المستمر إلى مقر التحقيقات وأنه خضع لعملية قلب مفتوح
أفادت المعلومات بأن جهات أمنية حاولت التوسط بين أسرة الطفل والمتهم للصلح دون فتح محضر رسمي حيث توجه والد الطفل إلى مركز الشرطة يوم 19 فبراير 2024 للإبلاغ عن الواقعة ففوجئ برئيس المباحث يرفض تسجيل المحضر ويدفع نحو تسوية ودية مؤكدًا أن غياب الأدلة سيجعل القضية بلا جدوى وأنه من الأفضل إغلاق الملف بشكل ودي حفاظًا على سمعة الطفل كما قيل له آنذاك
أوضحت تفاصيل لاحقة أن بعض الأطراف السياسية تدخلت لحث أسرة الطفل على الصلح حيث قام عضو مجلس الشيوخ عن محافظة البحيرة وقيادي بحزب سياسي معروف بدور الوساطة مقابل عرض مالي ضخم مع وعد بتوفير مستقبل دراسي مميز للطفل وشقيقه في المدرسة ذاتها دون مقابل مادي طوال سنوات الدراسة المتبقية
نوهت أسرة الضحية إلى أن أحد رجال الأعمال من أصحاب محال التحف والنجف الشهيرة بالبحيرة حاول كذلك التدخل بعرض مشابه يتضمن التكفل بكامل نفقات الدراسة مقابل التنازل عن القضية ومحو آثارها من السجلات الرسمية والرأي العام
أردف تقرير المتابعة أن أحد أعضاء مجلس أمناء مدرسة الكرمة اقترح على والد ياسين حذف جميع المنشورات التي تتعلق بالقضية من وسائل التواصل الاجتماعي والتوقف عن توجيه الاتهام لأشخاص بعينهم وتحويل دفة الاتهام نحو المؤسسة التعليمية نفسها في محاولة واضحة لتبرئة الأفراد المتورطين
أعلنت المحكمة حكمها في ظل غياب كامل لأي ذكر لتورط الجهات التي سعت للتغطية على الواقعة أو تلك التي قصّرت في تنفيذ مهامها من تحريات وتحقيقات وهو ما اعتبره متابعون تقصيرًا كبيرًا في تحقيق العدالة الكاملة وعدم إنصاف للطفل الذي لا تزال أسرته تبحث عن إجابات للأسئلة التي لم يُكشف عنها النقاب حتى بعد الحكم
زعم الكثير من الأهالي في محيط المدرسة أن ما جرى لم يكن الحادث الأول من نوعه داخل المؤسسة التعليمية بل سبقه حالات مشابهة طُمست تفاصيلها بفعل الضغوط الاجتماعية والسياسية وهو ما أعاد النقاش مجددًا حول أمان الأطفال داخل المدارس الخاصة وغياب الرقابة الحقيقية عليها
أجاب متابعون للشأن الحقوقي أن التأخر في إصدار التحريات الرسمية لمدة 10 أشهر شكل أحد أبرز معوقات الوصول إلى الحقيقة وأن التأخير المتعمد هذا أسهم بشكل مباشر في طمس ملامح القضية وتقديمها للرأي العام بصورة مشوهة لا تعكس حجم المعاناة التي مر بها الطفل الضحية
أضافت عائلة الطفل أن آثار الجريمة لم تكن نفسية فقط بل شملت تأثره الدراسي والصحي بشكل كبير حيث لم يعد قادرًا على استئناف دراسته بشكل طبيعي منذ الواقعة ما دفعهم لمناشدة الجهات التعليمية بتوفير دعم نفسي وتعليمي عاجل له ولشقيقه لضمان عدم تفاقم الآثار السلبية للحادث
أكد مراقبون أن واقعة مدرسة الكرمة ليست فقط قضية جنائية بل تمثل نموذجًا مؤلمًا لفشل مؤسسات الدولة في حماية الأطفال من الانتهاكات الجسيمة وتواطؤ بعض الجهات الرسمية في محاولة التستر على الجريمة بدلًا من كشفها ومحاسبة المتورطين بشكل شامل وعادل
لفتت الواقعة أنظار المهتمين بقضايا الطفولة والتعليم إلى ضرورة إعادة النظر في دور مجلس الأمناء بالمدارس ومساءلة أعضائه بشكل دوري وضمان استقلاله الكامل عن الإدارات التعليمية منعًا لأي تدخلات تضرب منظومة التعليم في صميمها وتهدد سلامة التلاميذ
استرسل المتابعون في الدعوة إلى إطلاق حملات رقابة وتفتيش مفاجئة على المدارس الخاصة لمراجعة إجراءات الأمان وسلامة الطلبة وضمان توافر كاميرات مراقبة فعالة وعدم الاكتفاء بالتقارير الورقية التي يمكن التلاعب بها بسهولة
أعلن العديد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي تضامنهم الكامل مع أسرة الطفل ياسين مطالبين بكشف جميع المتورطين وتقديمهم للعدالة دون استثناء وعدم الاكتفاء بإدانة شخص واحد فقط في ظل وجود مؤشرات واضحة على أن الواقعة لم تكن فردية
أشار تقرير قانوني إلى أن حفظ القضية في البداية بدعوى عدم كفاية الأدلة شكل سابقة خطيرة تؤسس لمفهوم الإفلات من العقاب وتفتح الباب أمام المجرمين لارتكاب جرائم مماثلة دون خوف من العقوبة إذا ما نجحوا في طمس الأدلة أو التأثير على مجريات التحقيق
صرح أحد خبراء القانون الجنائي أن الحكم بالسجن المؤبد رغم كونه رادعًا إلا أنه لا يكفي لتحقيق العدالة الكاملة ما لم تتم مراجعة ما جرى داخل أجهزة التحقيق التي تجاهلت عشرات الطلبات الرسمية وأخرت العدالة عمدًا
أردف التقرير أن ما حدث في دمنهور لم يكن مجرد خطأ إداري بل أقرب إلى تواطؤ متكامل الأركان شاركت فيه أطراف أمنية وسياسية وتعليمية بصورة مباشرة أو غير مباشرة وسعت لحماية الجاني وتجنب أي فضيحة تمس سمعة المؤسسة التعليمية أو الجهاز الأمني
أوضح الحادث المؤلم أن العدالة لا تكتمل بإصدار حكم قضائي فقط بل تكتمل حين يُحاسب كل من قصّر في أداء واجبه وشارك في إخفاء الحقيقة أو تزييفها أو التلاعب بمشاعر الضحية وأسرته من أجل مصالح شخصية أو سياسية