مقالات وآراء

حسين عمار يكتب: هل وصلنا إلى قاع البئر؟

يعيش المجتمع المصري هذه الأيام حالة من الصدمة العنيفة مع تفاصيل واقعة الاعتداء الجنسي الممنهج على الطفل ياسين داخل مدرسته على يد كهل ارتضى لنفسه الحيوانيّة وغريزته الشيطانية طفلا يُشبع به رغباته، وجد في براءته مبتغاه فاستباحها لتتحول المدرسة من دار تربية وعلوم إلى غابة ومرطع للديابة.

ولكن في حقيقة أن أجد أننا أقرب في موقفنا هذا من النعامة التي أحاطها الخطر من جانب فظنت أن النجاة بدس الرأس تحت التراب ثم استيقظت بالفزع قبل الألم على ناب مفترسها مغروسا في جسدها وقد تمكن منها.

ما الذي يمكن أن يحدث في ظل انتشار العبث ومحاولات تشويه الفطرة وهدم قيم المجتمع وأخلاقه وقتل أحلامه وتحجيم آفاقه وتسطيح أفكاره وتفريع المعاني من جوهرها حتى أصبح البلطجي قدوة وتاجر المخدرات رجل أعمال والسارق ذو الثوب الغالي وصاحب السيارات الفارهة رجل أعمال والمنحرفين أصحاب فكر يُفسح لهم المجال وتفتح لهم كل الأبواب على مصراعيها لتقديم كل ما يشوه أبنائنا وبناتنا بل ويطال من هم أكبر بكثير من حيث العمر.

كل هذا يحدث برعاية رسمية بل وتشجيع منقطع النظير حتى وصل الأمر إلى تحويل الدراما من عنصر يساعد على أحياء القيم والمبادئ في النفوس إلى أداة كان لها دور كبير في تحطيم المجتمع إلى جانب أنماط اخرى من الفن الهابط من أفلام سينما ومهرجانات شعبية وقبضة أمنية لا حدود لها في التعامل مع أي صاحب رأي على صوته بكلمة حق أراد بها خيرا لوطنه وشعبه.

المفارقة الفارقة في الأمر أن السلطة منذ ١٠ سنوات وأكثر استخدمت كل ادوات الفن والإبداع لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المجتمع كله بما لديه من قيم واخلاق، التمكين بإغراق المجتمع كله في حالة سيولة اخلاقية لاتسمح لاحد أن يشغل باله بالأمور العامة وتوجيه النقض للسلطة وتعكير صفوها ولكنها دائما ما كانت تتعلل بـ ” ليس لنا دخل في الفن وحرية الإبداع” في حين أنها نفس السلطة التي قتلت الفنان إيمان البحر درويش وتطارد فنانين حقيقيين اتسقوا مع فنهم ورسالتهم مثل الأستاذ هشام عبدالله والأستاذ هشام عبدالحميد والأستاذ محمد شومان والأستاذ عمرو واكد.

هي نفس السلطة التي تحتجز عشرات الالاف وقتلت الالاف لمجرد تعبيرهم عن رأيهم ورفضهم ممارسات السلطة. هي نفس السلطة التي تُحاسب شبابنا وبناتنا على محتوى يقدمونه على مواقع التواصل الاجتماعي بدعوى أن يمثل محتوى يدعو للفسق والفجور وعدم اخلاق المجتمع في حين أن هؤلاء الشباب ضحايا ما تقدمه شركات الإنتاج السينمائي والدرامي من أعمال لا تخاطب إلا الغرائز ورسائل هدامة وتُكرم المشاركين في هذه الأعمال من الساقطين والساقطات المحسوبين بالإفك على الفن.

القبضة الأمنية وممارسة التوحش وتضييق الخناق على المجتمع وتهميش الكوادر وتقديم الساقطين والساقطات وتقديمهم ك قدوة للمجتمع لن ينتج عنه مجتمع واعي أو جيل سوي يمكن تنشأته في بيئة مناسبة بل يحول المجتمع إلى التوحش بأشكال ودرجات مختلفة حسب قوة كل مواطن مع الأضعف منه.

ناهيك عن محتوى مدمر تكتظ به مواقع التواصل الاجتماعي لا يمثل خطر على فئات عمرية محددة أو جنس أو خلفية دينية أو ثقافية أو اجتماعية، محتوى يغزي الروح الحيوانية في النفس البشرية بل ومن الممكن أن تجردها من إنسانيتها بسهولة بأشكال وصور متعددة فتجد المحتوى الهابط الذي يخاطب الغريزة ويُسوق للشهوات بمختلف أشكالها شاذة أو غير شاذةة وما أكثر الإحصائيات التي نُشرت عن نسب مرعبة لمدمني هذا المحتوى.
وتجد محتوى كوميدي قائم على الإسفاف وتسطيح العقول وآخر يحض على الكراهية ويبتهج بالقتل أو يهلل للظلم ومشاهير أشبه بالحمير يرون في معجبيهم جنود في جيشه وكلاب مسعورة جاهزة للفتك بكل من يتعرض له بكلمة ولو بحق! فهو الحق المطلق والحقيقة الكاملة والجمال كله مهما شرد أو انفلت زمام عقله وتلوثت كلماته.

على صعيد آخر – مهما كانت المقدمات المتسقة مع النتائج التي نعيش اجزاء منها اليوم وعشنا بعضها أمس وحتما سنعيشها غدا إذا استمر الحال على ما هو عليه- وجدت فيه ان الصدمة يمكن تبريرها إذا ما تحدثنا على مكان الاعتداء وشخص المعتدي وشركاؤه وصفاتهم. نعم انها صدمة عنيفة لايمكن التعافي منها بسهولة، الجريمة وقعت في المدرسة! تلك الملاذ الآمن للتربية والتعليم والتكوين السليم لكل طفل، تلك المكان المقدس الذي لا يقل أهمية عن البيت بل ربنا يفوقه من حيث الأهمية في جوانب كثيرة، هذا المكان الذي يعوض ما ينقص الطفل في بيته ويؤكد على ما يتعمله فيه على يد الأب والأم من قيم واخلاق.

أما الجاني فقد تجاوز بعمره سن الثمانين أي أن لديه أحفاد ومر عليه أجيال واجيال خلال مسيرته المهنية، كيف استطاع أن يصل إلى هذه الدرجة من الحيوانية ويتجرأ على طفل ويستبيح براءته وهو مؤتمن عليه! ألم يرقب قول زميل أو صديق في عمره عن معزة الأحفاد وغلاوة الأبناء! كيف استطاع أن يتجاوز كل القيود التي من المفترض أن تكون بداخله مهما انتكست فطرته وتشوهت نفسه وأظلمت روحه؟ أما شركاؤه في الجريمة التي لم تكن واقعة عابرة بل كانت ممنهجة كلما غلبته شهوته الشيطانيّة يأمر الدادة “خادمة إبليس” بإحضاره والانتظار حتى ينتهي مش جريمته لتقوم بهندمة لباس الطفل بعد تعريته وغسل مكان الاعتداء وهو أطهر منهم، وكذلك المديرة التي من المفترض انها حامية الطفولة والقدوة فلم تكتفي بالتستر على جرائم إبليس وخادمته بل ارتضت لنفسها أن تكون شيطانة بتهديد الطفل بقتل والده ووالدته إذا أبلغهم بما يحدث معهم! أما المدرسة التي أبلغها ياسين بما يحدث معه وصمتت ودعت الطفل البريء إلى عدم ابلاغ أسرته وتركته فريسة لعصابة الشياطين التي هي واحدة منهم، إنها مثال للعفانة، عنوان جبن وخيانة تربت في مستنقع قمامة!

فإذا كان مكان الجريمة مصيبة فصفة مرتكبيها أشد وأعظم، إنهم من أصحاب الولاية على الأطفال ويتقاسموا الامانة مع كل اسرة لها في مدرستهم طفل. المُعلم والمعلمة كالاب والام بين البيت والمدرسة شراكة تربية وتعليم وصناعة مستقبل! هذه النظرية التي القواعد النادرة التي اجتمعت عليها البشرية قبل الميلاد وبعده وفي أعراف الأمم قبل الأديان والاتفاقيات الدولية والتشريعات المحلية في كل البلدان، المعلم والمعلمة شركاء في المسؤولية والولاية مع الأب والأم.

أتذكر جيدا كيف كانت مدرستي في المرحلة الابتدائيّة والتي أكاد اجزم انها كانت نسخة طبق الأصل من معظم مدارس الجمهورية حينها، كيف كنا محاطين بالأمان وروح الأب والأم التي كانت هي أساس تعامل كل المدرسين والمدرسات. كنا نشعر بها قبل أن نراها واقعا ملموسا في الأفعال، نعم لم يكن التعليم بالقدر المطلوب ولكن قواعد التربية لم يختل ميزانها في يوم من أيام الطفولة حتى مع المرحلة الإعدادية والثانوية على ما فيها من شغب وتجاوزات بحكم الطفرة التي تسيطر على هذه المرحلة العمرية. وهذا لا يعني ان المدرسين والمدرسات ملائكة لا يُخطئون أو أنه لايوجد بينهم صاحب مزاج او عاشق للاعوجاج، قطعا موجودين ولكنهم كانوا يقدرون المسؤولية في إطار دورهم وواجبهم ثم خارجها يفعل كل منهم مايروق له مع الصُحبة.

العجيب في هذا الباب أنه وعلى الرغم من هذا الهباب يُخرج أحدهم رأسه من تحت التراب ويقول في دهشة كيف حدث هذا؟ أو أن يخطب فينا ترزي الضلال الماهر عمرو أديب متعجبا عندما أحرز النجم المصري عمرو مرموش هاتريك مع فريقه مانشستر سيتي، سائلا بكلاحة وكلمات مُطرزة بالبجاحة “الغريب ان العيال تخرج من هنا وتكسر الدنيا هما بيعملوا ايه وايه اللي بيحصل؟” يسأل وهو أعلم الناس بأن النجاح والتفوق يحتاج لبيئة ومناخ غير موجود في مصر بفضل سياسات من يُدلس من أجلهم بالأجرة، كل طرق النجاح في كل مجالات العلوم بحثا وعملا والرياضة مغلقة باستثناء من يُطوع علمه لخدمة الأسياد لا بلاد ولا عباد. في حين تجد الأبواب كلها مفتوحة على مصراعيها للإسفاف والفساد والإفساد وتكريم القائمين على ذلك وتقديمهم للمجتمع على أنهم صفوة المجتمع فأصبح البلطجي حلم يراود الأطفال وتعاطي المخدرات واقع فرض نفسه على الشباب والانحلال وانعدام الاخلاق نمط حياة صنعتها الدراما في المجتمع.

ما زلت على يقين أننا كشعب لم تنتكس فطرتنا ولكنها محنة معقدة اثرت في سلوكياتنا واغتالت كثيرا مما كنا نحمله من جمال في الحضور وحسن الخلق والذوق العالي والمروءة التي تجري في العروق والتسامح الجم. هذا التدني لن يتوقف إلا بمواقف مجتمعية ورغبة جادة لدى الدولة لإنقاذ مايمكن إنقاذه، لا داعي للاستمرار في تدمير المجتمع ومنظومته القيمية.

واخيرًا أقول بقلب يعتصره الألم ولكنه متمسك بالأمل في مستقبل مشرق لأولادنا، كان الله في عون كل أسرة مصرية مدركة حجم التحدي والمخاطر وتسعى إلى صناعة نماذج قوية ونفوس سوية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى