
بدأ اليوم، 3 مايو 2025، العام المئة والخمسون على إنشاء صندوق الدين في مصر، ذلك الكيان الذي وُلد على أنقاض العجز المالي في عهد الخديوي إسماعيل، ليحكم قبضته على خزائن البلاد، ويصبح رمزًا لانكسار السيادة، وسقوط الإرادة الوطنية تحت أقدام الدائن الأوروبي.
في 3 مايو 1876، لم يكن إنشاء هذا الصندوق مجرّد قرار إداري لإدارة العجز، بل كان بداية وصاية مقنّعة، فُرضت على مصر تحت راية “إعادة تنظيم المالية”، وهي الراية التي رفعتها لاحقًا الجيوش البريطانية، لتنهي حقبة “الحلم الخديوي”، وتبدأ مرحلة الهيمنة الاستعمارية باسم الإصلاح.
ولعل المفارقة الأكثر إيلامًا، أن مجلة Conflits الفرنسية اختارت اليوم ذاته – 3 مايو 2025، الذكرى ذاتها لإنشاء صندوق الدين
لنشر مقال تحليلي للكاتب تيجران ييگافيان، تحت عنوان: «Al-Sissi, le nouvel Ismaïl Pacha ?»
أو: “السيسي… الخديوي إسماعيل الجديد؟”
لم يكن المقال مجرّد مقارنة عابرة، بل دراسة متكاملة ترصد – بحذر ودهشة – تكرارًا شبه حرفي لفصول التاريخ.
يكتب ييگافيان: «مثلما غرق الخديوي في دوّامة الاقتراض من أجل مشاريعه الضخمة، يُعيد السيسي إنتاج المشهد ذاته، حيث تعلو نبرة الإنجاز وتغيب قواعد الاقتصاد.»
يشير المقال إلى أن السيسي، منذ توليه السلطة، أسّس لدولةٍ تدور في فلك العسكرة الكاملة، مثلما بنى إسماعيل دولة تدور في فلك الأرستقراطية الجديدة. كلاهما رأى في الحداثة قشرة لا جوهرًا، وفي البناء الفوقي بديلاً عن إصلاح القاعدة.
يكتب ييگافيان أيضًا: «إذا كان صندوق الدين قد أنشئ قبل 150 عامًا بإملاء من أوروبا، فإن صندوق النقد الدولي بات اليوم يؤدي الدور ذاته، لكن بعبارات دبلوماسية ملساء.»
ثم يُضيف: «الجنرال المصري يسير على خطى الخديوي بإصرارٍ عجيب: الاستدانة، التوسع، القمع، ثم التعثّر.»
في كلا النموذجين، إسماعيل والسيسي، تتوارى أصوات المعارضة خلف جدار الصوت الرسمي.
لكن الفارق أن الخديوي لم يسجن معارضًا واحدًا، بينما غصّت سجون السيسي بزهرة شباب مصر، وعقلها، وصحافتها، ومجتمعها المدني.
ويسأل الكاتب الفرنسي في نهاية مقاله:
«هل يتجه السيسي إلى ذات المصير؟ إلى الانهيار السيادي؟ وهل ستعود مصر مرة أخرى إلى عهد الوصاية، ولكن هذه المرة، عبر نوافذ البنوك، وشروط الصناديق، وعقود الخصخصة؟»
من المؤسف أن الإجابة لا تحتاج إلى وقت…
حين تنهار العملة، وترتفع الأسعار، وتُباع الأصول، وتُخنق الحريات… يكون التاريخ قد قال كلمته.
والتاريخ لا يُعيد نفسه، لكنه ينتقم من الذين يُصرّون على تجاهله.
مصر تبدأ اليوم العام 150 على إنشاء صندوق الدين،
لكنها، في الحقيقة، بدأت منذ سنوات رحلة العودة إلى مربع الصفر…
ربما ببزّات عسكرية لا بطرابيش حمراء،
وربما بصندوق نقد دولي لا لجنة أوروبية،
لكن الجوهر واحد:
الاستبداد الذي يُغلف عجزه بورق الذهب، ثم يسقط حين تنكشف فواتيره.
فهل لا يزال في هذه الأمة من يُراجع التاريخ قبل أن يُكرّره؟