شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : عمّنا محمد عبد القدوس صوتٌ لا يخفت… وقلمٌ لا يجف

في حياة كلٍّ منّا أشخاص لا يعبرون وحسب، بل يسكنون… لا يظهرون في المشهد ثم يغيبون، بل يظلون ظلًا رقيقًا فوق القلب، وصدى عميقًا في الذاكرة.
من هؤلاء الذين لا يرحلون، لأنهم لم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا للناس، وللقيم، وللكلمة…

كان ولا يزال “عمّنا” محمد عبد القدوس.

وُلد في مايو 1947، من رحم أسرة لا تكتب الحكايات، بل تصنع التاريخ،
فهو ابن الكاتب العظيم إحسان عبد القدوس،
وحفيد السيدة التي أنجبت الصحافة الحرة روز اليوسف،
وحفيد الفنان المبدع محمد عبد القدوس.

لكنّ محمد لم يكن مجرد “امتداد”، بل كان

“بداية جديدة” لمجدٍ لا يشبه إلا نفسه.

عرفته أول مرة في عنبر المعتقلين عام 1981،

وكان في العتمة نورًا، وفي القيد حرية، وفي صمته موقف، وفي ابتسامته إيمان.

لم أكن أعرفه بعد، لكن ملامحه كانت مألوفة كأنها سكنت القلب قبل أن تسكن العنبر.

في نقابة الصحفيين، لم يكن مجرد عضو مجلس، بل كان النبض الشعبي للحريات،
وفي سلالم النقابة، لم يكن مجرد متحدث، بل كان الميكروفون الذي يتكلم بضمير أمة.

في ثورة يناير، لم يكن متفرجًا، بل كان شاهدًا وشهيدًا بالحضور، لا بالغياب.

في يوم 25 يناير، أصيب أمام مكتب النائب العام، لكنه ظل واقفًا،

لأن القلم لا يسقط حتى لو سقط الجسد. كان صوته يعلو حين تخفت الأصوات،وقلمه يكتب حين تجفّ المداد.

وحتى اليوم، ما زال محمد عبد القدوس يكتب كل صباح،
ويبعث مقالاته على “واتساب”، ويرسلها إلى من يعرف ومن لا يعرف، ليقول لنا:

“أنا هنا… الكلمة لا تموت.”

كتبه لا تُنشر كلها…
لكن صوته يصل، وكلمته تُروى، وصفحته أنقى من أن تُلوّنها جريدة أو تكمّمها جهة.

هو يكتب لوجه الله، ولقلب الوطن، ولضمير هذا الشعب الذي يبحث عن من يشبهه.

كان يقول دائمًا:

“إذا خان القلم، خانت الأمة… وإذا صمت الصحفي، نطقت السجون.”

وقد آمن أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع،

لكنها لا تُنتزع بالكراهية، بل بالمحبة، والصدق، والتجرد.

في كل مظاهرة، كان “عمّنا” حاضرًا،

لا ليوزّع الشعارات، بل ليصون المعنى.

في كل لجنة داخل النقابة، كان صوته صوت المستضعفين والمقهورين والمطرودين من جنّة الولاء.

كان يحمل قضايا الإسلاميين بلا أن يكون تنظيمياً،
وقضايا الليبراليين بلا أن يكون متحزّبًا،
وقضايا الوطن بلا أن يرفع إلا راية واحدة:

الحق كلمته كانت بسيطة كأبواب الحارة، عميقة ككتب الأولياء،

تقرأها فتشعر أنك أمام رجل لا “يُكتب” عنه، بل “يُقرأ” منه.

“عمّنا” ليست مجرد نداء شعبي، بل وسام،
لم يحصل عليه إلا لأنه أخٌ أكبر للجميع،
ولأن الكل رآه فيه… حتى المختلفون، حتى الذين ظلموه، كانوا لا يملكون إلا أن يحترموه.

اليوم، هو ما زال بيننا، حاضرًا، شامخًا، بقلمه، وصوته، وإيمانه،

وابتسامته الطفولية التي لم تلوثها قسوة السياسة.

وندعو الله أن يمدّ في عمره، ويزيده نورًا وكتابةً وصوتًا،

ليظل “عمّنا” كما كان… صوتًا لا يخفت، وضوءًا لا يغيب.

**دمتَ بخير يا عمّنا،

ودامت كلماتك لنا قبلةً في جبين الحقيقة

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى