
بداية نؤكد حرصنا الشديد على تحقيق العدالة، وتطلعنا إلى أن يسمو القضاء المصري فوق كل نقيصة، وما مقالنا هذا أو ما سبق .. إلا سعي للوصول إلى أفضل قدر ممكن من العدالة، ونحن ندرك أننا لن نصل إلى الكمال، بيد أننا قادرون أن نرتفع من مقامنا هذ إلى مقام آخر رفيع .. في محراب العدالة.
ونحن في هذا الصدد، لا ندافع عن الرجل المسن صاحب الـ 79 عاماً، في قضية الطفل ياسين، وإن كان لقضيته تلك تحديداً وضع مختلف، ذلك لأن أوراقها باتت مع العامة من الناس، فمن قرؤوها من القلة توقعوا البراءة، ومن لم يقرؤها من الأغلبية أصدروا حكمهم بالإدانة على المتهم من قبل عقد المحاكمة.
وما كان ينبغي أن تخرج أوراق الدعوى إلا بعد الفصل فيها، لأن الحكم للقانون وحده، وليس للعواطف أو المشاعر.
وعندما بدأت المحكمة ما لبثت إلا ثلاث ساعات، وبعدها نطقت بالحكم المؤبد، وقد أعاد البعض بأن السرعة في إصدار الحكم سببه الخلل في دفاع المتهم الذي لم يطلب شهود نفي أو أي طلبات أخرى، وأنه اكتفى بما ورد في أوراق الدعوى، مطالباً الحكم بالبراءة.
ونحن في هذا الصدد نؤكد على الآتي : أن حق حصول الإنسان على محاكمة عادلة، هو مبدأ اتفقت عليه العهود، والمواثيق الدولية، وقد كانت مصر من أوائل الدول التي انضمت إلى تلك المعاهدات الدولية، وأكدت جميع الدساتير المصرية عليه، وقد جاء دستور 2014 متفقاً مع ضمانات المحاكمات العادلة.
ونحن لسنا بحاجة إلى تشريعات جديدة، وإنما إلى تفعيل بعض مواد القانون، وتعديل للبعض الآخر، كما سيتضح من خلال المقال.
وبداية :
فإن (المحاكمة العادلة) تعني : حق المتهم في التمتع بالحقوق، والضمانات، والآليات الموضوعة سلفاً في الدستور، والقانون، ومبادئ حقوق الإنسان، والإتفاقيات الدولية الموقعة عليها مصر.
وعلينا أن نعلم أن الإدانة، والعقاب حق للمجتمع، بينما البراءة حق للمجتمع والفرد معاً.
وضمانات المحاكمة العادلة المتوافق عليها هي كالتالي :
1- حق المتهم في المثول أمام محكمة مستقلة ومحايدة، نشأت بحكم القانون.
2- الحق في الدفاع : فإنه يجب أن يتاح لكل متهم حق الدفاع عن نفسه، والرد على التهم الموجهة إليه، وأن يُستَجوَب بطريقة مهنية، وغير تعسفية، وأن يتحدث مع المحكمة، وللمتهم الحق بإختيار محام يمثله.
3- لا يجوز إخضاع المتهم للإهانة أو الضرب أو التنكيل أو التعذيب.
4- الحق في المحاكمة العلنية : إذ يجب أن تكون المحاكمة علنية، وشفافة، وأن يسمح للعامة من الناس بالحضور.
5- مبدأ (المتهم بريء حتى تثبت ادانته)، إذ يجب أن يظل المتهم بريئاً إلى أن تثبت إدانته بحكم نهائي بات.
6- الحق في (الحكم العادل) : فيجب أن يصدر الحكم بعد اتباع كافة الإجراءات القانونية، وأن يكون مبنياً على الأدلة والشهود.
7- تمكين المتهم من الطعن على الحكم الصادر ضده أمام محكمة ثاني درجة.
وبعد هذا العرض فإنني سأتحدث عن أربعة نقاط فقط، من وجهة نظر شخصية، تاركاً الباب للقارئ ليقرر ما بين رأي الخاص، وحال الواقع، والرأي هنا عام غير خاص بقضية بعينها.
النقطة الأولى:
المعمول به في المحاكم المصرية، أنه لا يسمح للمتهم بالحديث في المحاكم الجنائية، فهو يجيب على سؤال واحد فقط، توجهه إليه المحكمة في البداية بعد تلاوة نصوص الإتهام، والسؤال هو : هل فعلت كذا أم لم تفعل ؟ وبعد إجابة المتهم، لا يسمح له بالحديث بعد ذلك.
فإذا أصر المتهم على الحديث فيما بعد، فإن المحكمة تمنعه، بل وجاز لها أن تخرجه من القاعة، وأيضاً لها أن تعاقبه، وبدلاً من أن يصبح المتهم صاحب حق في الحديث عن تهمة تخصه، نجده يتهم بتهمة أخرى، وهي أنه قد أساء إلى المحكمة إذا ما تمسك بحقه.
وهنا أرى أننا بحاجة إلى تعديل تشريعي يسمح للمتهم بالحديث إذا ما أراد، فما المصيبة إلا مصيبته، وإن كان بريئاً، فهو الأقدر على تقديم دليل براءته.
النقطة الثانية:
مبدأ (أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، وهذا المبدأ لم يؤخذ به مع المتهم المسن، في قضية الطفل ياسين، إذ أن جزء كبير من المجتمع قد أقر بصحة الجريمة، من قَبل أن تبدأ محاكمة المتهم.
وهذا خلل إجتماعي خطير، ونقص وعي لدى مواطنين غاب عنهم هذا المبدأ، وهو أمر يحتاج إلى بذل المزيد من نشر الوعي، خاصة بين الأميين، والجهلاء، والبسطاء من الناس، وبكل أسف هم كُثر في مجتمعنا، فكيف لمجتمع كُله أو جُله أن يُشِهر سيفه بالباطل، وهو لم يحقق أو يدقق، وأيضاً من قبل بدء المحاكمة، كما أن إصدار الأحكام هو عمل من شأن القضاء وحده، وليس من شأن العامة من الناس، والذين بدورهم قد يؤثرون على القاضي، ففي النهاية هذا القاضي إنسان يتأثر بما يتأثر به الأفراد في المجتمع.
وبالتالي : لابد من نشر الوعي بين الناس بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، والإدانة لا تكون إلا بعد صدور حكم نهائي بات، وليس حكم محكمة أول درجة.
النقطة الثالثة:
مبدأ (الحق في الحكم العادل) هذا المبدأ يتطلب أن يتمكن المتهم من الدفاع عن نفسه، وإن تستجيب المحكمة إلى طلبات دفاعه سواء من إستدعاء شهود نفي أو مناقشة الطب الشرعي، وغير ذلك.
وتلك أمور تتطلب وقت طويل ما بين إعلانات قضائية، واستجوابات، وأسئلة جديدة، ثم في النهاية تؤجل المحكمة الجلسة ليوم آخر، لحين استعداد محامي المتهم للمرافعة النهائية.
وفي قضية الطفل ياسين، كان على محامي المتهم أن يبدي دفاعه، ودفوعه، وطلباته أمام المحكمة، فإن كان قد فعل فقد أصاب، وإن لم يفعل فقد أضر بالمتهم، وساهم في الحكم عليه بالعقاب.
وفي هذا الصدد أرى أننا بحاجة إلى تعديل تشريعي في أمرين:
الأمر الأول/ الزام القاضي بإثبات كل ما يطلبه محامي المتهم في محضر الجلسة، واعتبار تقصير القاضي في هذا الأمر إذا ما انصرف عنه (خطأ مادي جسيم).
الأمر الثاني/ السماح لمحامي المتهم بسؤال شهود الإثبات وجوهاً لوجه، وليس بتوجيه السؤال للمحكمة أولاً ثم تتوجه المحكمة بالسؤال للمتهم، إذا ما اقتنعت به، كما هو الوضع الآن.
النقطة الرابعة:
يجب أن يكون ميزان القاضي في حكمه هو ما يثبت له من خلال الأوراق، وشهادة شهود الإثبات أو النفي، إلى غير ذلك من أدلة الثبوت، بعيداً عن عاطفة القاضي نهائياً.
وتلك نقطة أخرى أراها تحتاج إلى تعديل تشريعي وهو : إلزام القاضي بالحكم طبقاً للأدلة المادية فقط، أما عن مسألة ضمير المحكمة أو شعورها أو تعاطفها، فلا يجب أن يكون لذلك مكان لا في الإدانة، ولا في البراءة، ذلك لأن العاطفة قد تخدع، أما الأوراق، وأدلة الثبوت أو النفي، فإنها مادية لا تخدع.
في النهاية:
نجد أن الحق في (المحاكمة العادلة) هو حق يضمن للفرد حماية حقوقه أمام القضاء، وهذا ما يعد تطبيقًا للعدل والمساواة، وعلى الله قصد السبيل.