
ورقة من مذكراتي
لا أفرح بسجين، ولو كان هو مَن سَجَنني.
ولا أشمت بضعفٍ، ولو كان صاحبُهُ قد مارس عليَّ جبروت القوّة.
فليس في انتقام الأيام، ما يُشبع القلب النبيل، ولا في سقوط الجبابرة، ما يُغري الأرواح الكبيرة بالشماتة.
ثلاثون عامًا على عرش مصر، لم يكن فيها الرجل شيطانًا محضًا، ولا ملاكًا منزّهًا. أحسنَ في قليل، وأسرف في كثير، ثم أُجبر على الرحيل، ليهبط إلى نفس الموضع الذي كان لي فيه قرارًا، وسجنًا، وأسرًا.
ذات الزنزانة… ذات الجدران الرمادية الكئيبة… ذات السرير الحديدي الذي رقدتُ عليه خمس سنواتٍ تذوب فيها الأيام، ولا تُفرّق الليالي بين حرٍّ خانق، وبردٍ لاذع، ووجعٍ لا يأتيه شفاء، وانتظارٍ بلا أمل.
يوم أن بلغني خبر إيداع مبارك في سجن مزرعة طرة، في الزنزانة المسماة مجازًا “المستشفى”، لم أشعر بشيء…
لم تكن دهشة، ولا سعادة، ولا حتى استغرابًا.
كان ذلك المشهد مألوفًا في رأسي، محفورًا في ذاكرة حلمٍ سكنني، ورويته قبل أن يُصبح واقعًا بشهور.
حلمت أن مبارك ينام على فراشي، مرتديًا ثوبًا رثًا، بلونٍ باهتٍ منسيّ.
وجهه شاحب، ساكن، ثقيل الحضور… حوله أطباءٌ حائرون يُحاولون إنعاش رجلٍ لم يعد فيه شيءٌ للحياة.
وعند باب الزنزانة… كان جمال مبارك و أحمد عز واقفين، بثيابٍ بيضاء، وصمتٍ يتجمّد في الهواء…
كأنهما تمثالان من رخام الندم، أو بقايا حيرةٍ تتجسّد على هيئة بشر.
كنت يومها سجينًا بالفعل، لكن الحلم بدا أكثر واقعية من يقظة سجّاني.
رويت الحلم في حينه لمن حولي، ولرئيس مباحث سجن المزرعة، العقيد المحترم أشرف فرج.
وكتبت عنه مقالًا نشره إبراهيم عيسى في جريدة الدستور.
لم أكن نبيًا، ولا الحلم وحيًا…
لكن الزنازين – أحيانًا – تعرف ما لا تعرفه الأبراج… وتقول ما لا تقوله المحاكم.
بعد عامين من الحلم، زرت السجن في لجنةٍ حقوقية… اقتربت من المستشفى.
وبينما أخطو نحوه، لمحتهما: جمال، وعز، واقفين حيث رأيتهما في الحلم، بثيابهما البيضاء، في نفس النقطة.
كأن الزمن لم يتحرك، وكأن الرؤيا تحوّلت إلى مشهد ثابت في فيلم متكرّر.
طلبت أن أعود لغرفة المأمور.
لم أشأ أن يراني أحدهما، أو يُفسّر الزيارة بما ليس فيها.
والله يعلم… قلبي لا يسكنه انتقام، وعقلي لا يعرف لذة الشماتة.
لستُ قاضيًا… بل شاهدُ عصرٍ تُوجعني كل الأحكام الجاهزة.
حين كتبت عن هذا الحلم لأول مرة، كنت لا أملك سوى قلمٍ وحلمٍ ويقين.
يقيني أن كل بناءٍ على الظلم، هو بناءٌ على الرمل…
وأن دواليب التاريخ لا تعرف التوقف، حتى وإن تعطّلت عدالة القضاء.
في سجون هذا الوطن، رأيت ما يكفي لأعرف: الظلم قد يحكم، لكنه لا يحكم التاريخ.
رغم أني محامٍ – ابن محامٍ – لكنني تيقّنت أن المحاكم، حين تُدار بأوامر، لا قوانين، تتحوّل من معابد للحق، إلى مذابح للعدالة.
كل طاغية يمرّ، يترك وراءه قاعة محكمة، تحكم لا باسم الشعب، بل باسم الخوف.
قال أحد زعماء نهضة الهند: “المحكمة قد تصنع العدل أو الظلم… حسب يد الحاكم التي تُديرها.”
وهذا هو ما نراه اليوم، في مصر و تونس، وغيرهما.
رأيت بعيني المحاكم تغلق أبوابها أمام صوت الحقيقة، وتفتح نوافذها لأوامر الأجهزة.
التاريخ مكتوب بأحكام قضائية لا بعدالة، بل بدمٍ بريء:
من جان دارك إلى سقراط، ومن قضية دريفوس التي فضحها إميل_زولا في “إني أتهم”، إلى مأساة “آنا جولدي” التي أعدمت ظلمًا في سويسرا، فاعتذر البرلمان بعد قرنين.
أي مهزلة تلك؟!
أن يُكتب الحكم بالظلم في الحياة، وتُكتب البراءة على شواهد القبور.
كنت في زنزانتي، أفكّر في كل هؤلاء، وأردّد في داخلي:
الحقائق تُدفن، لكنها لا تموت… العدالة تتأخر، لكنها لا تتخلّف.
فكّرت في من خرجوا من السجن أقوى، لا أضعف…في آصف زرداري، زوج بينظير بوتو…
وفيها، وفي موتها الذي لم يمنع انتصارها.
وفي أنور إبراهيم، الصديق الذي دخل السجن بتهمة ملفّقة، وخرج رئيسًا لوزراء ماليزيا.
وفي نيلسون مانديلا، رجب طيب أردوغان…
حاولت زيارة أردوغان وقت اعتقاله، ضمن وفد برلماني، فرفضت السلطات أن أُصطحب بمترجم…
لأنهم كانوا يعلمون أن بعض السجناء يخيفون العروش.
قالها السادات عن الزنزانة 54:”مكانان لا يهرب فيهما الإنسان من نفسه: الحرب، والسجن.”
وربما لذلك، عاد بعد عقود إلى سجن طرة، لا كسجين، بل كهدّام له، كأنما يُسقط ظلّه القديم، في مرآةٍ كانت تخيفه.
واليوم، أكتب هذه الورقة…لا فقط لأروي قصة، بل لأترك أثرًا.
أتمنى أن تصل الرسالة لمن حكم، ولمن ظُلم…
أن الزنازين لا تحتفظ فقط بالأجساد، بل بالأسرار.
وأن سرير السجن، قد ينام عليه الظالم والمظلوم… لكن التاريخ وحده، يكتب لمن كان الشرف.
زنزانتي لم تكن سجنًا… بل كانت مرآةً… وسِفْرًا… وصفحةً من سفر العدل
وأنا لم أكن وحدي من قرأها قبل أن تُكتب
بل رأيتها بقلبٍ مفتوح… وكتبها حلم…
ثم صدّقها الزمان.

