
في عالم يتسارع فيه التغيير وتتشكل فيه المعرفة يومًا بعد يوم، لا تزال كثير من المؤسسات—في عالمنا العربي خصوصًا—تُدار بعقلية تقليدية تُقدّس الاتباع وتُقصي الإبداع. وعلى الرغم من الشعارات التي تُرفع عن “تشجيع الأفكار الجديدة” و”تبنّي الكفاءات”، إلا أن الواقع يكشف عكس ذلك؛ فالثقة تُمنح غالبًا لمن يُحسن التكرار، لا لمن يُحسن التفكير.
الاتباع… الطاعة التي تُرضي وتُجمّد
ثقافة الاتباع ليست مجرد التزام بالتعليمات، بل هي نمط ذهني يُعوّل على الطاعة العمياء و”الولاء” غير المشروط. من يتقن هذا النمط يحظى بمكانة آمنة داخل المؤسسة، ويُنظر إليه كعنصر موثوق، حتى وإن لم يُضف شيئًا حقيقيًا. في هذا السياق، تُصبح الجدارة مقيسة بمدى الامتثال، لا بمدى الإبداع أو التأثير.
الإبداع… ذلك القلق المرفوض
في المقابل، الإبداع لا يولد من الراحة، بل من القلق. من الشك. من سؤال “لماذا؟” و”هل يمكن أن نفعلها بشكل أفضل؟”. ولهذا فإن المبدع غالبًا ما يُنظر إليه كعنصر “مُقلق” أو “غير منضبط”، لا لأن فكره ناقص، بل لأن فكره زائد عن حاجة النمطية.
حين تُهدد الثقة كل جديد
المفارقة أن أكثر ما يُرهق المؤسسات ليست الأفكار الجديدة، بل مقاومة هذه الأفكار باسم “الانضباط”. وتلك معضلة؛ لأن الثقة، حين تُمنح لغير أهلها، تتحول من قيمة إلى عائق. حين تُعطى لمن يُجيد الانقياد لا لمن يُجيد الإضافة، فإن المؤسسة تحكم على نفسها بالبقاء في مكانها، مهما ادعت غير ذلك.
بين الجمود والانطلاق
إن أي مؤسسة ناجحة لا بد أن تخلق توازنًا بين النظام والمرونة، بين الالتزام والإبداع، بين الوفاء للتقاليد والانفتاح على المستقبل. أما أن تكون الثقة حكرًا على أهل الاتباع، فذلك انتحار بطيء لكل إمكانيات التطور.
كلمة أخيرة
ليس كل مَن يطيع مخلصًا، وليس كل مَن يُخالف عدوًا. فلنراجع مقاييسنا. لنعِد تعريف الولاء، لا بوصفه تكرارًا لما كان، بل التزامًا بما ينبغي أن يكون. فالمبدعون، مهما أزعجونا، هم وحدهم القادرون على أن يأخذونا إلى الأمام.