د. أيمن نور يكتب : من يُحرّك إصبعك؟ لا تتوهّم أنك صاحب القرار!

أنتَ لا تمسك الهاتف… الهاتف هو من يمسك بك! أنتَ لا تكتب منشورك… بل يُكتَب لك!
في هذا العصر، لم نعد نُفكّر… بل يفكَّر نيابةً عنّا،
ولم نعد نختار… بل نُدفع نحو الاختيار الذي صُمّم لنا.
نعيش زمنًا تُقاس فيه العقول بعدد المتابعين، والحقائق بعدد “الإعجابات”،
والمواقف بعدد “المشاهدات”!
زمنٌ تُصاغ فيه القناعات داخل خوارزميات،
وتُحقن فيه الذاكرة بحقنٍ رقمية ملوّثة.
لا تتوهّم أنك حرّ… فأنت – دون أن تدري – تسير على خريطة مرسومة،
نقطة بنقطة، صورة بصورة، إشعارًا بعد إشعار.
تخيّل أن أكثر من 10 مليارات ساعة تُقضى يوميًا في التصفح،
وأن نحو خمسة مليارات إنسان يمتلكون حسابًا واحدًا على الأقل…
هل كلهم يقرأون؟ لا.
هل كلهم يُفكّرون؟ لا.
هم فقط يُسجّلون إعجابًا.
والإعجاب – في زمن الرقمنة – توقيع على عقدٍ لم تقرأه!
فيسبوك، يوتيوب، أمازون، جوجل، أبل، مايكروسوفت، علي بابا… كلّها تقسم بأغلظ الأيمان أن الخوارزميات بريئة،
وأنها لا تُملي عليك رأيًا، ولا تحذف منشورك إلا “للمصلحة العامة”!
لكن الحقيقة؟
هي أن تلك الخوارزميات تُقدّم الكذب أولاً،
والحقد ثانيًا،
وتُخفي الحقيقة في آخر الصفحة،
إن ظهرت أصلاً!
في عالمٍ يُعلي الأرباح على الأخلاق، تُروَّج روايات القاتل،
وتُحظرُ شهادات الضحية…
ويُغتالُ الوعي بنقرة.
منشورات تُدين الاعتداءات الإسرائيلية تُحذف،
بينما يُضفى على المحتلّ هالة المُحاور المُحق،
والمقاوم يُحاصر… حتى في الفضاء الرقمي!
الأخطر من ذلك: صانعو المحتوى…
الذين لا يصنعون شيئًا سوى صورة مزيفة لعالم مثالي أو جحيم كاذب،
يعرضون أنفسهم وسلعهم وأفكارهم في بازارٍ مفتوح،
وأنتَ، بلا وعي، تشتري ما يبيعونه…
بل تُسوّقه لأصدقائك!
في العالم العربي، نحن لا نفتقر إلى التكنولوجيا، بل نفتقر إلى الحصانة العقلية…
لماذا لا نُعلّم أطفالنا أن يفكّكوا المعلومة كما يفكّكون اللعبة؟
أن يسألوا قبل أن يشاركوا،
وأن يشكّوا قبل أن يُصدّقوا؟
دراسات اليونسكو تُظهر أن أكثر من نصف المؤثرين العالميين لا يتحققون من مصادرهم،
لكنهم يؤثّرون…
يصنعون رأيًا عامًا،
ويُشكّلون وعينا الجمعي،
وكلّ هذا بلا مساءلة، ولا معيار!
لهذا، أُطلقت آلاف الدورات حول “محو الأمية الإعلامية”،
وتعليم التمييز بين الرأي والمعلومة،
بين المحتوى الحقيقي، والتسويق المغشوش…
لكننا، في العالم العربي، ما زلنا نناقش:
هل نسمح للتلاميذ باستخدام الإنترنت؟
وكأن المعضلة في الجهاز…
لا في طريقة التفكير!
كلّ نقرةٍ على الشاشة، كل “تفاعل”، كل “مشاركة”،
تُكلّفك أكثر مما تتخيل… الزمن، والذاكرة، والهوية.
المثل الأمريكي يقول: “There’s no such thing as a free lunch”
كل شيء له ثمن،
وكل من “يعزمك” على وجبةٍ رقمية… غالبًا لديه فاتورة خفية.
فَكِّر، قبل أن تستهلك،
وازِن، قبل أن تُصدّق،
واكتب رسالتك قبل أن يُكتب وعيك!