
ليس جديدًا أن تتوتر العلاقات بين الجزائر وفرنسا، لكن ما نشهده هذه الأيام يتجاوز التوتر التقليدي، ويتحول إلى صراع مكشوف بين جناحين: أحدهما في قصر الإليزيه والآخر في محيط قصر المرادية، عنوانه الظاهر هو الدبلوماسية، أما مضمونه فهو المخابرات… والحسابات العميقة.
خلال الأسابيع الماضية، فتحت الصحافة الفرنسية – منابر معروفة بقربها من دوائر القرار الأمني – ملفات غاية في الحساسية، تتعلق بأسماء فاعلة داخل الجهاز الأمني الجزائري، وتحديدًا الجناح الأقرب إلى الرئيس #عبدالمجيد تبون.
هذه التسريبات لم تكن مجرد تحقيقات صحفية، بل بدت أشبه برسائل استخباراتية تُطلق من باريس باتجاه الجزائر، بهدف إرباك أو تصفية حسابات مع “جناح المساوة”، الذي يُنظر إليه باعتباره الطرف الأقل تجاوبًا مع المشاريع الفرنسية في شمال أفريقيا.
هذه الحملة الإعلامية – الاستخباراتية لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها توترات دبلوماسية متراكمة: تعطيل باريس لاعتماد قناصل جزائريين منذ أكثر من خمسة أشهر، ورفض دخول حاملي جوازات السفر الدبلوماسية الجزائرية إلى الأراضي الفرنسية، مقابل تسهيلات غير مبررة لخمسة عشر موظفًا فرنسيًا دخلوا الجزائر دون إشعار أو اعتماد رسمي، بينهم عناصر من وزارة الداخلية الفرنسية، وبعضهم كان بديلاً لعناصر فرنسيين طُردوا سابقًا باعتبارهم أشخاصًا غير مرغوب فيهم.
رد الجزائر لم يكن عابرًا هذه المرة، بل مباشرًا وحازمًا. فقد استدعت وزارة الخارجية القائم بالأعمال الفرنسي، وطلبت الترحيل الفوري لكل الموظفين الفرنسيين الذين تم تعيينهم خارج الإجراءات المعمول بها، في ما يشبه “طردًا دبلوماسيًا جماعيًا غير معلن”، ورسالة واضحة بأن الجزائر ترفض أن تتحول إلى ساحة خلفية للمخابرات الفرنسية أو مركزًا لتجريب النفوذ الناعم عبر قنوات دبلوماسية مُفخخة.
ما يجري اليوم يكشف عن تصعيد غير مسبوق بين البلدين، قد يتحول في الأيام القادمة إلى أزمة مفتوحة، خاصة في ظل تزامن هذا التوتر مع أزمات داخلية في فرنسا نفسها، كتصاعد الإسلاموفوبيا والاحتجاجات الشعبية ضد سياسات ماكرون تجاه المهاجرين، وهو ما يجعل الجزائر – شعبيًا وسياسيًا – أقل رغبة في مراعاة الحساسية الفرنسية التقليدية.
خلف الواجهة الدبلوماسية، يبدو أن باريس بدأت تفقد امتيازها التاريخي في التأثير داخل العمق الجزائري، في ظل صعود أجيال أمنية وسياسية جديدة أكثر حذرًا من فرنسا، وأكثر ميلًا لتعدد الشركاء الدوليين، من تركيا إلى الصين، مرورًا بروسيا.
أما في الجزائر، فإن ما جرى اعتُبر انتصارًا لتيار داخل النظام يسعى لاستقلال القرار الأمني عن أي مظلة خارجية، ولتصفية ما تبقى من “الدين الفرنسي المستتر”، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام.
لم تعد العلاقات بين البلدين محكومة بـ”الأخلاق الدبلوماسية”، بل باتت مشروطة بقوة الملفات وتوازنات المخابرات. وما يلوح في الأفق لا يُنذر فقط بقطيعة باردة، بل ربما بموجة تفكك تدريجي لتحالفات ظلت لعقود محمية بذاكرة الاستعمار والتاريخ المشترك.
قد تُرحَّل الأسماء، لكن الملفات لن تُطوى قريبًا. فالطرفان الآن يلعبان فوق الطاولة، والشارع الجزائري – والعربي – يراقب: من الذي يملك القرار…