شباك نور

الدكتور أيمن نور يكتب: حين تُحلق الكاميرا فوق سماء الاستبداد


حين يُعرض فيلمٌ مصري في كان، فذلك خبر.

لكن حين يناقش الفيلم قضية الحكم العسكري في مصر، على عهد الحاكم الحالي، وهو لا يزال على الكرسي، فذلك زلزال فني وسياسي وأخلاقي، تتجاور فيه عدسة الكاميرا مع فوهة البندقية، وتتقاطع فيه مشاهد الفن مع ملفات المخابرات والرقابة والخوف.

فيلم نسور الجمهورية، للمخرج الجريء طارق صالح، ليس مجرّد عمل درامي، بل هو مرآة ساخطة، انكسر عليها وجه النظام المصري، حين قرّر الغرب، للمرة الأولى، أن يدعم فنيًا ما يتغافل عنه سياسيًا، وأن يُنتج فيلمًا يفضح، في لحظة إنتاجه، ما يتواطأ معه في لحظة دعمِه وتمويله.

الفيلم، الذي سيُعرض عالميًا يوم 19 مايو 2025 ضمن المسابقة الرسمية للدورة 78 لمهرجان كان السينمائي، يمثل سابقة فنية في تاريخ مصر الحديث، إذ يفتح ملف الدولة العسكرية، لا من بوابة الماضي، بل من بوابة الحاضر الحيّ، المُتلبّس بالسلطة.

إنه ليس عن انقلاب قديم، ولا عن مذبحة منسية، بل عن “نظام حاكم”، وعن “رئيس قائم”، وعن “جيش ممسك بكل مفاتيح اللعبة”.

طارق صالح، الذي سبق وأن صدمنا بفيلميه السابقين حادثة النيل هيلتون وولد من الجنة، يُكمل ثلاثيته عن علاقة السلطة والفن في مصر، عبر قصة الممثل “جورج فهمي”، الذي يُجبر على أداء دور بطولي في فيلم عسكري دعائي، ليفاجأ بأن حياته الشخصية تتحول إلى دراما أكبر من أي سيناريو، بعدما يقع في حبّ زوجة الجنرال المنتج للعمل.

العمل ليس فقط قراءة سياسية جريئة للسلطة، بل هو تفكيك درامي عميق لآلية الدعاية الرسمية، التي تُعيد إنتاج الأكاذيب في قوالب البطولة. من جهة، تُمجّد النظام بأدوات فنية، ومن جهة أخرى، تُدمّر حياة من يُساقون للمشاركة في هذه المهزلة.

طاقم العمل، الذي يضم أسماء عربية ودولية لامعة، من فارس فارس ولينا خودري وعمرو واكد إلى دنيا مسعود وشيرين دعيبس، هو انعكاس لرسالة الفيلم العابرة للحدود، تمامًا كجغرافيته، التي تنقّلت بين عواصم عربية وأوروبية، بعد أن استحال التصوير في القاهرة، التي ضاقت بحرية الكلمة، فكيف بحرية الكاميرا!

المفارقة الأبلغ ليست فقط في مضمون الفيلم، بل في مصدر تمويله. فالشركات المنتجة تنتمي لدول أوروبية هي نفسها التي تُقيم علاقات وطيدة مع النظام المصري، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
لكنّ الفن، كالماء، يتسرّب حيث لا يمرّ الخطاب السياسي.

وربما لهذا السبب تحديدًا، بدا الفيلم كصرخة مزدوجة: صرخة من داخل السلطة، وصرخة من داخل الضمير الأوروبي.

مشاركة “نسور الجمهورية” في مهرجان كان ليست لحظة فنية فحسب، بل لحظة سياسية بامتياز. لحظة تقول فيها السينما المصرية المستقلة كلمتها، بعد أن صمتت طويلاً تحت وطأة الرقابة، والتهديد، وتهم العمالة، والإرهاب، والتشويه.

الفيلم، الذي صوّره مدير التصوير الفرنسي بيير آيم، ووضع موسيقاه ألكسندر ديسبلات، الحائز على الأوسكار، يقدّم نفسه كوثيقة جمالية وشهادية على عصر يتقن الدعاية، لكنه يجهل الحقيقة.
هو ليس ضد النظام – كما قال مخرجه – بل مع الحقيقة، وهي أبلغ أشكال المعارضة.

ما يفعله طارق صالح هنا، هو إعادة الاعتبار للفن كسلاح مقاومة، وكمنصة للنقد، وكنافذة للتأمل في ديناميكيات السلطة، التي لا تدهس الأعداء فقط، بل تلتهم أبناءها، وتستخدمهم، ثم تلقي بهم، في الظل أو في السجون أو على هوامش التاريخ.

من كان يتصور أن “النسر”، رمز القوة في شعارات السلطة، يمكن أن يتحوّل في لغة السينما إلى رمز قمع، ودراما، وخسارات إنسانية لا تُحصى؟

لكنّ هذه هي مهمة الفن الحقيقي: أن ينزع الريش الذهبي عن الطغيان، ليُري الناس جرح الطير، لا جناحه.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى