
في عام 2011، تأسست على يد أستاذنا الفاضل محمد عبد القدوس لجنة الدفاع عن المظلومين “ضمير مصر”، وكان حلم عبد القدوس تشكيل لجنة للدفاع عن قضايا الرأي والقضايا السياسية للصحفيين والعمال من كل ألوان الطيف، كانت تضم نخبة من التيارات النوعية من نساء وعمال وفلاحين، وطبعًا أيامها الإخوان كان لهم تمثيل.
كان الإخوان في الحكم، والغرور يركب عقولهم وأفئدتهم ووجدانهم، ومن هنا حاولوا السيطرة على اللجنة تارة بلجانهم النوعية، وتارة بتأثير على الأستاذ محمد عبد القدوس، حتى انتهى المطاف بسحب لجنة الخبراء المحامين العرب، التي كان يرأسها محمد أبو الديار، فك الله أسره.

نجح عبد القدوس من خلال موقعه الفكري وثقافته السياسية والفكرية في ضم عددًا كبيرًا من هؤلاء لبعض الوقت. بعض هؤلاء في السجون الآن، ليس بسبب اللجنة، فقد أسسها عبد القدوس رسميًا كجمعية ولها مقر. كان بها محمد أبو الديار كما اسلفت ، والزميلة مروة أبو زيد فكك الله أسرها أيضًا ، ولن أذكر بقية الأسماء لأن بعضهم في السجون الآن.
كان الإخوان أكثر من يستفيد من اللجنة حينها، فحاولت الجماعة تركيز نشاطها في التأثير على جميع الصحفيين المحايدين بتنسيقية الحقوق والحريات التي يرأسها المحامي عزت غنيم، فك الله أسره، وشخصية نسائية بارزة في الجماعة، ليكون لهم غطاء تعمل اللجنة من خلاله.

كنت دائمًا أنبه في الجلسات العلنية من خطورة طموح الإخوان واعتبارهم الكيان الأساسي، فقد كانت شخصية عبد المنعم أبو الفتوح والشاطر تحاول أن تطغى على واقع اللجنة، وكان ذلك واضحًا في الجلسات الخاصة.
بعد نجاح ثورة الشعب المصري ضد الإخوان، اتخذ الأستاذ محمد عبد القدوس قرارًا بحل لجنة الدفاع عن المظلومين “ضمير مصر” بناءً على نصيحة غالية من الحكيم طارق البشري، الذي شهد وتنبأ بمستقبل الجمعيات الخيرية والحقوقية، وتم حل الجمعية بقرار عمنا وشيخنا محمد عبد القدوس.

لم نجد أي صوت من الذين يطلقون على أنفسهم “الإخوان” حينها سوى الاتهامات الباطلة والدعوى المزيفة على منابر يتخيلون أنفسهم الزعماء والقادة الوحيدين للحركة الإسلامية. عمل هؤلاء على تمجيد أنفسهم والسيطرة على المحيط العام بكل الطرق، ونسي هؤلاء النظر في ورقتهم، على حد وصف الشيخ عصام تليمة للوزير الأوقاف المصري أسامة الأزهري بخصوص قانون الفتوى: “لا تنظر لورقة غيرك”.
نسى هؤلاء النظر في ورقتهم كما نسيت لجنة “ضمير” الأستاذ منصف المرزوقي النظر في ورقتهم الأساسية وهي ورقة “المراجعات” وورقة “تقييم المرحلة” في تونس قبل مصر، وبحثوا عن تيار آخر بديل يديرون من خلاله المعركة مع النظام تارة، ومع الدولة تارة أخرى، في وقت يدرس رفاق الشاطر في الداخل (السجون) رهاناتهم الخاسرة، ومنها رهان “ضمير العالم” الذي يرهنون هم عليه الآن.
الضمير الحقيقي الآن يجب أن يكون داخل الوطن، داخل مربع الحقيقة الذي يرفض التهجير والتمييز ومواجهة الحصار، والتي يعرفها أهلينا في المجتمع المصري جيدًا، بدون معلم، وبدون مُنظر . يعرفها أهلينا في مدينة العبور والسلام وأكتوبر الجديدة، وكيف يستقبلون الجرحى والطلاب لتسهيل العلاج والدراسة والعيش الكريم. مقاومة التطبيع في نقابة الصحفيين قصة وحدوتة، تلك النقابة التي لم يدخلها صهيوني ولم تدنس بعلم غير أعلام المقاومة.
مقاومة التهجير خرجت من “الجمعية المصرية للدراسات التاريخية”، تاريخ مصر الحاضر والحقيقي والشعبي، دفاعًا عن هويتها الفكرية والثقافية، وكيف نتعلم هناك أصول الشخصية المصرية.
لا يصلح أن يتولى ضمير مصر غير مصري، ويجب أن يكون “منصفًا” محايدًا شفافًا يعرف قيمة هذه الأرض، ويعرف من هو سلمان خاطر وأيمن حسن ومحمد صلاح، ويعرف جدران سجن العقرب، ويعرف كيف يعيش الأبطال في الزمن الصعب.
يظن البعض أن الضمير شيء بسيط يشبه مصباحًا صغيرًا يضيء حين تخطئ الطريق وينطفئ حين تستقيم، ولكن الحقيقة أن الضمير أوسع وأعمق من هذا الوصف الساذج، فهو ليس مجرد همسة خافتة تذكرك بما يجب، بل هو الحس الخفي والوعي المستتر والذوق الرفيع الذي لا يُرى، والحلم الذي يحرس قلبك في الليل، والاحتياج الأخلاقي الذي يولد معك ويكبر بصمت داخلك. هذا الكائن الغامض هو وحده الذي يمد لك الحبل إذا غرقت، ويصفعك إذا تجرأت على ظلم أحد حتى لو لم يشكك فيك أحد.
الضمير هو الحقيقة وإعطاء الناس قيمتهم وقدرهم مهما اختلفت معهم، وهو معرفة قدر الرجال في زمن غابت فيه الحقيقة، وشاعت فيه “زمرة” قليلة صنعت حالة من الشغب المؤقت الضائعة خلف أوهام الطريق بدون ضمان مجتمعي حقيقي للوعي.
الضمير كالحارس الذي لا يعرف الكلل ولا النوم، يقف خلف كل حركة تصدر عنك دون أن يستأذنك، يهمس لك حين تمتد يدك إلى مجهود غيرك، ويوقظك من وهم القوة حين تظن نفسك فوق البشر، إن الضمير يلاحقك في أضعف لحظاتك وأقواها، لأنه لا يعمل وفق حسابات الربح والخسارة، ولا يتقاعد من عمله مع مرور الزمن. فإذا خدرت ضميرك مرة واحدة، صارت الطريق بعدها أسهل للسقوط في الهاوية، حتى تغدو الخيانة شطارة والغش مهارة والظلم وجهة نظر والنفاق فنًا اجتماعيًا، والمدعي دكتور، والمرشد قائد حركة.
الحركة التي تفقد ضميرها لا تحتاج إلى كارثة طبيعية لتنهار، ولا سجون مستبدين لتسقط، فهي تتآكل من الداخل مثل بيت قديم أكلته الرطوبة لكنه ما زال واقفًا للزينة فقط. حين تتعطل بوصلة ضمير حركة يصبح الغش ذكاء والكذب سياسة والأنانية اجتهادًا، والمنافق رجل دولة وقائد مسيرة ، والفاسد بطل قومي، لأن الضمير هو القانون الذي لا يُكتب والدستور الذي لا يُوقع، لكنه وحده القادر على أن يجعل الإنسان يحترم أخاه الإنسان دون شرط أو خوف أو مكافأة.
ما أكثر الذين يرتدون ثياب الوطنية ويحفظون أسماء المدن والشوارع عن ظهر قلب، لكنهم لا يعرفون أن الوطن الحقيقي ليس هو الحدود ولا الأعلام ولا الهويات الشخصية. الوطن يبدأ من الضمير، فإذا مات الضمير مات الوطن، ولو بقيت راياته مرفوعة وأنشودته محفوظة في المدارس، لأن الأرض التي لا يسكنها الضمير تصبح مجرد حفنة تراب للبيع في سوق الطمع، والناس الذين يعيشون بلا ضمير لا يعرفون معنى العيش، بل يزحفون فوق بعضهم كما تفعل الحشرات حين يشتد الجوع.
ضمير مصر ليست فقط في المعارضة ولجان وشبكات ومؤتمرات وبكائيات الحركات ، بل جوع وخوف وشتات، الضمير هو التجارب التي لا ترحم، وهي في كل بيتٍ مصري يتألم لواقع غزة. هو ضمير مرّ بآلام ومحن شديدة. هناك قصص كهذه لم تُروَ بعد، مكتوبة في رحم الأحزان.
تحية لتاريخ محمد عبد القدوس الذي حاول أن يكتب صفحة من “ضمير مصر الحر”، الذي كانت لجنة تُدار أحيانًا من مكتب إحسان عبد القدوس، وأحيانًا أخرى من مقر حزب الغد فوق مبنى جروبي عند التيار الليبرالي الذي يمثله د. أيمن نور بـ “مصر”، والأصل كان يُدار من أروقة نقابة الصحفيين، حيث كان وما زال عضوًا في الجمعية العمومية.
ضمير مصر باقي في الوطن وداخل أبطال صنعتهم المحن والتجارب، ولن تخدعهم الشعارات. يعيشون في حواري القاهرة في عين شمس والمطرية وشبرا الخيمة وفيصل والهرم وأكتوبر.
ضمير مصر صنعته التجارب وصهرته المحن، وعلمته الحياة كيف يكون رجلًا يتحمل الصعاب، ويقوى عند الأزمات، ويعرف كيف يُدار الممكن وليس المستحيل.
تحية لضمير مصر القابع في الوطن، فلم يبدل ولم يغامر، ويدافع عن حلم ما زال في رحم الغيب لم يولد بعد.