مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّرات عربية.. السودان.. الدماء على بريق الذهب


لم تكن الحرب الأهلية السودانية في يومٍ من الأيام صراعًا بين جنرالين على كرسيّ السلطة، كما تُروّج له بعض العناوين البليدة. بل هي جبهة مشتعلة على امتداد رقعة الذهب، حيث تتداخل المصالح بين تجّار المعادن، وأمراء الحرب، والمخابرات، وحتى “المنظمات الإنسانية” التي تهبط بطائراتها المحمّلة بالموت.

السودان – تلك البلاد الغنيّة بالفقر، والفقيرة بالثروات المهدورة – تقف اليوم على مناجم الذهب لا على أعمدة الدولة. فالذهب أصبح لعنة تدفقت من دارفور إلى أبوظبي، ومن سونغو إلى أسواق بورصة الذهب في دبي، عبر شبكة شيطانية تشترك فيها المليشيات والمرتزقة والشركات الوهمية، بل حتى بعض الحكومات الخليجية والغربية.

كشف الصحفي الشجاع ديكلان والش، ومعه فريق دولي من الصحفيين، في تحقيق استقصائي نشرته نيويورك تايمز، أن أكثر من 50 طنًا من الذهب خرجت من السودان خلال عام واحد من الحرب فقط، وأن معظمها اتجه إلى الإمارات. ومع كل طلعة جوية محمّلة بالسبائك، تسقط في السودان قذائف جديدة.

ليست الإمارات وحدها في قفص الاتهام. فروسيا من خلال فاغنر، والصين من خلال اتفاقات التعدين، وأوغندا من خلال كونها محطة لغسل الذهب المهرب، وحتى الولايات المتحدة التي تلوّح بالعقوبات ثم تصمت عند أبواب أبوظبي، جميعهم لاعبون في هذه المسرحية الدموية.

ما يحدث في السودان ليس مجرد نزاع داخلي. بل هو تواطؤ دولي على نهب بلدٍ يُذبح باسم الإرهاب ويُصلب على خشبة الذهب. الدعم السريع بقيادة #حميدتي لا يُقاتل من أجل الديمقراطية، بل من أجل تأمين صفقاته مع فاغنر والإمارات. أما الجيش السوداني، فصار يبيع مناجمه للروس والخليجيين ليستمر في الحرب.

من مخيمات الفاشر المحاصرة إلى مصانع الجنيد التي تحرسها القوات الروسية، ومن سماء الخرطوم التي تحلّق فيها الطائرات المُسيّرة إلى أسواق الذهب العالمية، تتساقط كل دعاوى السيادة والحرية والكرامة.

الذهب ليس فقط وقودًا للحرب، بل غطاء لكل الجرائم: من التطهير العرقي، إلى المجاعة، إلى الاغتصاب، إلى قصف المدنيين، إلى بيع السودان بالمزاد.

نحن بحاجة إلى لجنة دولية لتصنيف ذهب السودان كـ”ذهب دموي”، تمامًا كما صُنّف ماس سيراليون وليبيريا في تسعينيات القرن الماضي. ولا بد من وقف تهريب الذهب عبر الإمارات، وفرض قيود صارمة على شراء الذهب من مناطق النزاع.

لا سلام في السودان إلا إذا جفّ نبع الذهب المهرب، وبدأت ثروات البلاد تُوظّف لصالح أهلها لا لقتلهم.

هذا التحقيق ليس وثيقة إعلامية فحسب، بل هو صكّ إدانة مكتمل الأركان لنظام عالمي يُشعل الحروب بالنيابة، ويشتري الذهب بثمن الدم، ثم يحدّق في صور الخراب بتعاطفٍ زائف.

السودان اليوم لا يحتاج إلى خطب، بل إلى عدالة دولية، ومسؤولية أخلاقية، ووعي شعبي، ووقف كامل لكل أشكال التواطؤ، من “دبلوماسيات الذهب” إلى “طائرات الهلال الأحمر” التي تفرغ شحناتها لصالح المليشيات. إن دماء أهل السودان أغلى من كل سبائك العالم، وإن الحق في الحياة لا يُستبدل لا بيورانيوم ولا بمليارات الدولارات. فلتُرفع هذه الشهادة في وجه العالم: الذهب دمٌ لا يلمع، بل يحترق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى