ثقافة وتاريخمقالات وآراء

أحمد عبد المتجلي يكتب: النكسة الثقافية !!

تابعت باهتمام تصريحات النائبة المحترمة مها عبد الناصر، و التى رفضت بشدة الاجراءات التى اتخذتها الهيئة العامة لقصور الثقافة بشأن إغلاق عدد كبير من قصور و بيوت الثقافة مؤخرا، و أشارت إلى أن الوقائع التى تم رصدها فى محافظات الصعيد خاصة تدق ناقوس الخطر، إذ لم يعد الأمر مجرد إغلاق مؤقت أو إصلاحات متعثرة، بل سياسة عامة قائمة على التخلي التدريجي عن الدور التنويرى للدولة، و دللت على أن : ” أكثر من 70 قصرا و بيت ثقافة و مكتبة مغلقة، او تعمل جزئيا رغم صرف المليارات سابقا على أنشائها او تطويرها دون أى مردود فعلى، و أكثر من 300 منشاة ثقافية على مستوى الجمهورية لا تقدم أى خدمات حقيقية“.

و أكدت أن: ” الأرقام لا تكذب، فوفقا لتقارير صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، هناك ما يزيد على 120 بيت ثقافة و مكتبة فى قرى لا تقدم أى أنشطة فعلية، و بعضها يستخدم كمخازن و البعض الاخر مهجور، و أكثر من 60% من هذه المؤسسات لم تنظم فعالية واحدة خلال عام 2024، و هنا نجد أن معظم ميزانية الهيئة العامة لقصور الثقافة تذهب على أجور و بدلات إدارات لا تزور مواقعها”.

و قد تزامنت قرارت الغلق الأخيرة مع تصريحات وزير الثقافة بأن الإقبال على المنتج الثقافى ضعيف، و نوهت النائبة مها عبد الناصر إلى: ” أنه بدلا من أن تبحث الوزارة عن سبب عزوف المواطنين عن هذه المواقع، سواء لعدم تطويرها أو غياب الأنشطة أو رداءة المحتوى، اختارت الحل الأسهل و هو الإغلاق، كمن يعاقب المريض على مرضه بدلا من علاجه، و كان الحكومة قررت التخلى تماما عن أبناء المحافظات ، و تركهم فريسة للفراغ الفكرى و الجهل، دون حتى محاولة لإنقاذ ما تبقى من ملامح للثقافة العامة”.

و شددت النائبة على أن السكوت على هذه ” النكسة الثقافية” هو تفريط فى الأمن القومي الناعم للدولة المصرية، و ضرب مباشر لهوية مصر التى كانت دوما منارة للإبداع و الفكر”.

و مع كامل احترامي لقيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ فإن ما اتخذوه من إجراءات الغلق الأخيرة خاصة للعديد من قصور و بيوت الثقافة فى الصعيد، ينــــاقض ما جاء بالتزام الدولة بنص المادة 48 من الدستور المصري الصادر عام 2014، و التى نصت على أن : ” الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة و تلتزم بدعمه و بإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك. و تولى اهتماما خاصا بالمناطق النائية و الفئات الأكثر احتياجا..”. و هو ما يعرف بالعدالة الثقافية، و التى ضربت بها هيئة قصور الثقافة عرض الحائط!!.

و بقراءة ما جاء فى الرؤية الاستراتيجية للثقافة فى مصر حتى عام 2030 فى” بناء منظومة قيم ثقافية ايجابية فى المجتمع المصرى تحترم التنوع و الاختلاف و عدم التمييز”- ضمن رؤية مصر 2030- يتضح وجود” فجوة جغرافية فى عدد المكتبات العامة لكل 100 ألف نسمة“، وأن هدف الاستراتيجية تقليص النسبة إلى0.1 عام 2030، كما يتضح أيضا من تصفح محور الثقافة وجود” فجوة جغرافية فى عدد المراكز الثقافية” لكل 100 ألف نسمة و أن المطلوب هو تقليص الفجوة إلى 0.5 عام 2030. بما معناه أن إجراءات الغلق الأخيرة تناقض أهداف الرؤية الاستراتيجية للثقافة فى مصر حتى عام 2030، و بعبارة أخرى فإن قيادات هيئة قصور الثقافة فى واد، و رؤية مصر 2030 فى واد اخر !!.

و بتصفح ( الأجندة الوطنية للتنمية المستدامة.. رؤية مصر 2030 المُحدثة – إصدار 2023) ص 36  نقرأ أبرز تحديات التنمية و النهوض منها : ” – وجود تراث ثقافى يعزز بعض القيم السلبية منها روح التعصب و التطرف و التمييز النوعى و العمرى و الطبقى، و شيوع قيم الانتهازية و السلبية و ثقافة التحايل و” الفهلوة” و الفردية و عدم تقبل الرأى الاخر، و يقتضى ذلك مواجهة هذا التراث للحد من انتشاره، مقابل تدعيم التراث الثقافى الايجابى الذى يعزز روح العدالة و العقلانية و الرشد.

  • مقاومة للتغيير نتيجة للتراث الثقافى السلبى للعادات الموروثة و انتشار الأمية، إذ تأتى هذه الظاهرة من فئات عمرية مختلفة، و هو ما يستلزم معالجته على الرغم من أن أغلبية الشعب المصري دون الـ 40 عاما.
  • انتشار بعض الاتجاهات المناهضة للتطور و التنمية و مقاومة التجديد، و يظهر ذلك من أقوال و عبارات و حكايات تعزز الركود و اليأس و عدم الإيمان الكافى بالقدرات الذاتية للأفراد و المجتمع”.   

وإذا كان معرفة حجم التدهور مهما ، فإن الأهم من ذلك أن نعرف أيضاً لماذاً حدث ذلك ؟ لأنه إذا كان تشخيص العلل واجباً ،فإن تحرى مصدرها أوجب، و يستند كاتب هذه السطور إلى عمله محاميا بالهيئة العامة لقصور الثقافة، و عضوا بالإدارة القانونية لإقليم وسط و جنوب الصعيد الثقافى، أحد أهم قطاعات الهيئة العامة لقصور الثقافة و الذى كان يمتد من المنيا شمالا حتى حلايب و شلاتين جنوبا، ثم انفصل الجنوب عن الوسط لتصبح إدارة الإقليم مسؤولة عن أربعة أفرع ثقافية ( المنيا – أسيوط – سوهاج – الوادي الجديد )، كما يستند الكاتب إلى ملامسته ميدانيا لقضايا الثقافة بالصعيد خلال عمله لأكثر من خمسة عشر عاما بإدارة إقليم وسط الصعيد الثقافي وزياراته الميدانية للعديد من المواقع الثقافية  بمختلف محافظات الإقليم، ومناقشاته مع الكثير من مديري عموم الفروع و المواقع الثقافية    

إن إقليم وسط الصعيد الثقافى لا يعانى فقراً مادياً، ولا سوءاً فى إدارة موارده البشرية فقط، بل يعانى فى مقدمة كل ذلك ضحالة شديدة فى رؤى بعض قياداته، وفقر خيالهم وتدنى مستويات ثقتهم بأنفسهم، مشاكل الإقليم تكمن في تواضع قدرات بعض قياداته مقارنة بـ : أولا ، كم التحديات التي يواجهها، وثانيا : كم التوقعات .

إن تأجيل حل المشكلات وتراكمها بسبب تكلس بعض القيادات وبطء استجابتهم للتحديات،  والفساد الهيكلي، قد أدى إلى تفاقم كثير من هذه المشكلات التى كان يمكن حلها ،واستعصاء العديد منها على الحل نتيجة الإهمال والتراخي، أضف إلى ذلك إن اتساع مدى هذه المشكلات وديمومتها على امتداد الفترة السابقة وحتى الآن، والتراكمات الموضوعية والطبيعية المترتبة على نطاق التأثيرات السلبية البالغة الحدة لهذه لمشكلات، والتي نزلت بثقلها على النشاط الثقافى بالإقليم الأمر الذى أدى لانهيار الدور التنويري والثقافي للإقليم فى محافظات الصعيد.

لقد لخص الأستاذ: سعد عبد الرحمن، رئيس مجلس إدارة هيئة قصور الثقافة الأسبق ، المشهد بقوله :”الهيئة ليست مكانا جاذبا لعمل ،الذى يأتيني هو الأكتع يعنى عديم الواسطة ،والعاجز عن العمل فى مكان آخر ..لدينا 456 موقعا لكن الكثير منها لا يمكننا اعتباره موقعا ثقافياً “كمبنى مجهز ” لو أرادت تجميل الصورة أقول لك إن نصف هذه المواقع جيد..”.

نعم.. إن الثقافة المصرية فى أزمة حقيقية يمكن أن نلمسها فى تجليات كثيرة، منها تردى السلوك على كافة المستويات (التحرش الجنسي مثلا)، وغياب التفكير النقدي، وكثرة المساجلات دون أن يكون لها مردود فى تقدم المجتمع، وشيوع العنف بكل تجلياته اللفظية و السلوكية على الصعيد المجتمعي، فضلا عن ضيق الأفراد بالمختلفين ثقافيا ودينيا. وظهرت حالات الفتنة الطائفية والثأر والعنف بأشكاله المختلفة في الصعيد بشكل بارز عن بقية أقاليم مصر.

و على الرغم من أننا الان أحوج ما نكون إلى نهضة ثقافية، تبنى الشخصية الوطنية المصرية الحرة المبدعة القادرة على اقتحام افاق المستقبل، فإن بعض قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة قد اختاروا الحل السهل و هو إغلاق الكثير من المواقع الثقافية فى صعيد مصر، بدلا من تطويرها و تحديثها !!

و يكفى للتدليل احتياج الناس فى صعيد مصر للخدمات الثقافية هو التفاف الاطفال والشباب على أنشطة مركز أحمد بهاء الدين الثقافى- و هو مؤسسة ثقافية غير ربحية –  يقع بقرية الدوير و هى قرية نائية تتبع مركز صدفا بأسيوط، و هو الأمر الذى يعد دليلا ملموسا على تعطش المواطنين للثقافة.

و تحضرني هنا كلمات للسيد: بدر الدين أبو غازى– وزير الثقافة الأسبق: ” إن رسالة الثقافة هى تعميق إنسانية المواطن بشحنها بطاقات النور الروحية و ربطها بطاقات الفكر و الثقافة والقيم العليا فى الحياة.. و مطالب التوفيق بين الأصالة والمعاصرة يقتضى من أجهزة الثقافة أن تحقق فى عملها المعادلة بين التراث بقيمه الخالدة و روح العصر فى توهجها و تألقها..

” إن أجهزة الثقافة ينبغى أن تدخل فى حسابها أنها لا تعمل من أجل الصفوة وحدهم، و إنما هى تعمل من أجل الملايين المحرومين من الغذاء الثقافى.. إنها يجب أن تسعى إلى القرية سعيها إلى المدينة، و من هنا يرتسم خط أساسى فى فلسفة العمل الثقافى هو الثقافة للقرية.. و إلى ذلك ينبغى أن تسخر الجهود و تتحدد أساليب العمل الثقافى المناسبة..

إن الثقافة ليست ترفا و إنما هى ضرورة فى مجتمع يسعى إلى بناء ذاته، و هى دعامة للعمل الاقتصادى.. إن الخدمات الثقافية ينبغى أن تكمل الخدمات التعليمية لتمحو من لغتنا تعبير ” أمية المتعلمين” .

” تستطيع الثقافة الجماهيرية – هيئة قصور الثقافة – أن تغير وجه العمل الثقافى فى مصر و أن تصبح كما أسموها فى فرنسا ” الــــة الاحــــلام ” أداة سحرية لتعميق فكر الجماهير و صياغة وجدانه.. و لكن ذلك لا يتأتى إلا بمراجعة مستمرة للتجربة و تصحيح المسار”. 

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى