مصر وإسرائيل: بين المصالح السياسية والتوترات العسكرية

تعيش العلاقات المصرية الإسرائيلية حالة من التوتر المتزايد في الأسابيع الأخيرة، حيث بدأت إسرائيل حملة إعلامية وسياسية تطعن في موقف مصر، رغم كونه حليفًا لها في السنوات الماضية.
في الوقت الذي تسجل فيه مصر تقدمًا في إعادة تسليح جيشها، تبرز إسرائيل المخاوف من هذا التطور، معتبرةً إياه تهديدًا لأمنها القومي. وقد أسهمت التصريحات الإسرائيلية في إشعال الأجواء، إذ تُظهر تل أبيب مصر وكأنها خصم يسعى لتهديد استقرار المنطقة.
لكن هذا التصعيد لا يُفسر فقط بالقلق الأمني، بل يُرجح أن تكون هناك أجندات أخرى في اللعبة السياسية، وتسليط الضوء على التصعيد العسكري في غزة يعتبر جزءًا من هذه الأجندة. يتساءل العديد من المراقبين عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التحول المفاجئ في الخطاب الإسرائيلي تجاه مصر.
“الواقع يشير إلى أن إسرائيل تستثمر في حالة من الفوضى الإقليمية لتعزيز أجندتها، ولكن يجب على المجتمع الدولي أن يدرك المخاطر التي قد تنجم عن هذا النوع من التصعيد”، يقول خبير في العلاقات الدولية.
تستمر المخاوف من أن تؤثر هذه التوترات على جهود السلام بين الدولتين وعلى استقرار المنطقة بأسرها.
على مدار الشهور الماضية، شنت إسرائيل حملات دبلوماسية وإعلامية على مصر، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية كامب ديفيد، وذلك بنشر قوات في سيناء وإقامة بنية تحتية عسكرية متمثلة في تطوير مطار وميناء العريش وبعض المنشآت العسكرية في سيناء، قالت إسرائيل إنه غير متفق عليها. وهي نفس الفترة التي زادت فيها كميات الغاز التي تصدرها تل أبيب إلى القاهرة عدة مرات (زيادة بـ20 % في أكتوبر/تشرين الأول 2024، فـ 10% بشهر نوفمبر/تشرين الثاني و17 % في يناير/كانون الثاني 2025)، عبر اتفاقات متتالية.
هذه هي طبيعة العلاقة بين مصر وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ودفع الرئيس السادات لمصر تحت النفوذ الأمريكي، وإلزام القاهرة باستراتيجيات الولايات المتحدة كالسلام مع إسرائيل، التي ينظر إليها الغالبية الساحقة من الشعب المصري على أنها العدو الأول لهم ولبلدهم، والابتعاد عن المشاريع العربية المناهضة للولايات المتحدة، ومكافحة الشيوعية سابقا وغيرها.
وبينما كان النظام يحشد الآلاف من المواطنين للتظاهر على الحدود لرفض خطة إسرائيل تهجير أهل غزة، كانت نيابة أمن الدولة تُجدد حبس عشرات من الشباب بتهمة التضامن مع غزة ضد الإبادة الإسرائيلية. وعلى مدار عقود طويلة، ربطت علاقة مصالح وكراهية نظم الحكم المصرية بإسرائيل. حيث تولت مجموعة ضيقة من رجال الحكم من المسؤولين والسياسيين ورجال الأعمال التعامل مع إسرائيل، سياسياً وأمنياً واقتصادياً. وقد استغلت الأنظمة المصرية المتعاقبة هذا الوضع في ربح مكاسب من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وذلك بتسويق أنهم النظام الحامي لإسرائيل من كراهية وعداء الشعب الأكبر عدداً عربياً. وعلى الاتجاه المعاكس، فالنظام يتعامل مع حالة الغضب الشعبي هذه بمقياس حساس، حيث تزداد العلاقة مع إسرائيل حميمية كلما كان الوضع هادئا داخلياً والأوضاع الإقليمية أكثر هدوء، بينما يقوم بالابتعاد وأخذ خطوات للخلف في علاقته مع إسرائيل كلما ازداد الغضب الشعبي نتيجة الأحداث الإقليمية. كما يلجأ في بعض الأحيان -مثلما هو الحال حالياً -إلى قنوات آمنة لتفريغ الغضب والاحتقان الشعبي، وذلك بتنظيم مظاهرات عبر أذرعها الأمنية وتنظيمات سياسية مهندسة أمنياً، يوزع فيها رجال النظام الشعارات واللافتات المسموح بها، بينما تمنع وتقمع وتعتقل المظاهرات الأخرى خوفاً من تطورها وانتشارها شعبياً مما قد يهدد أمن النظام، وهو ما يدفع الكثيرين بالتضامن عبر القنوات الآمنة.
ومنذ عام 2005، عقب الانسحاب الإسرائيلي من غزة، مثّل القطاع أحد أهم دوائر العلاقات بين مصر وإسرائيل. فهو يُمثل أخطر وأهم بقعة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ليس له حدود بعيدة عن إسرائيل إلا نحو مصر، وكان معبر رفح الموجود في هذه الحدود هو البوابة الوحيدة للقطاع على العالم.
النظام “الأقوى والأقرب” من تل أبيب ورغم التعقيد التاريخي لهذه العلاقة، كان نظام السيسي أكثر تعقيداً من أسلافه، نظراً لظروف وكيفية وصوله إلى السلطة والأحداث والتقلبات الكبيرة التي حولت شكل المنطقة والمناخ حولها عدة مرات. فإسرائيل كانت أحد أهم داعمي السيسي والمدافعين عنه عقب الإطاحة بنظام الرئيس الإسلامي محمد مرسي. بل وعمل نتنياهو وكامل طاقمه كمكتب للعلاقات العامة حول العالم1، وذلك لمواجهة رؤية العالم لما حدث على أنه انقلاب عسكري على رئيس منتخب. وقد وصل الأمر بالوزير جلعاد أردان أن اتهم حكومة جنوب أفريقيا بأن موقفها الرافض لتحركات السيسي يُعد تشجيعا على الإرهاب.
وكما كان ذلك مهماً وجوهرياً للنظام المصري العسكري الجديد القادم بقوة للاستحواذ على السلطة وسحق حكم الإخوان ثم ثوار يناير/كانون الثاني 2011 وما فتحته من تطلعات ديمقراطية للشعب، كان ذلك مهماً لإسرائيل لإنهاء خطورة تولي نظام إسلامي حكم الدولة العربية التي تعد أكبر عدد من السكان، وكذلك دفع الجيش المصري في مستنقع السياسة والحكم و“البيزنس”، كما قيل صراحة من الجنرالات ورؤساء الاستخبارات الإسرائيلية في ذلك الوقت.2
وخلال سنوات حكم مبارك ثم السيسي تم استخدام قطاع غزة كأهم كروت اللعب السياسي مع تل أبيب وواشنطن. فبعد سنوات من الضغط المصري على القطاع واستخدام إغلاق المعبر كإجراء عقابي للغزيين وفصائل المقاومة بينهم في مكاسب سياسية للنظام، طورت أجهزة المخابرات المصرية في عهد السيسي علاقاتها مع هذه الفصائل بل وتعاونا في الحرب على التنظيمات الإرهابية المسلحة في سيناء. كما لعبت المخابرات المصرية أدواراً هامة لاحقاً في التهدئة ووقف الاشتباك العسكري بين فصائل المقاومة وإسرائيل، وهو ما ظهر جلياً في الرعاية المصرية لوقف إطلاق النار عام 2021 بعد معركة “سيف القدس”. وبهذا أصبح النظام المصري لاعباً أساسياً في العلاقة بين غزة وتل أبيب.
كما لجأ السيسي في سنواته الأولى إلى إسرائيل لمساعدته في حربه مع التنظيمات الإرهابية المسلحة في سيناء، وبالمقابل تم تأمين إسرائيل من الهجمات التي انطلقت من هناك، ليكون ذلك جزءًا من تعاون أمني هو الأقوى والأقرب في التاريخ وفق قول السيسي نفسه في مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” على قناة CBS الأمريكية، طلب السيسي لاحقاً عدم بثها3.
وتظهر أهمية مستوى هذا التعاون بوضوح في أمرين، أولهما موافقة إسرائيل على تعديل اتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين البلدين عدة مرات (مثلا في عام 2021) للسماح بدخول القوات المصرية أكثر إلى شمال سيناء، والأمر الآخر هو الضربات الجوية التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية في سيناء ضد التنظيمات المسلحة، والتي قالت نيويورك تايمز في تقرير لها نُشر في فبراير/شباط 2018 إنها تخطت 100 ضربة، وتمت بشكل سري بتنسيق عال وموافقة من السيسي شخصياً4. وقد بدأت هذه العمليات بعد تفجير طائرة ركاب روسية في سيناء في أكتوبر/تشرين الأول 2015، ما أسفر عن مقتل 224 شخصًا.
إلا أن كل هذا ذهب أدراج الرياح بعد اندلاع عملية الإبادة الجماعية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدعم أمريكي مطلق كسرت به تل أبيب كل الحدود السياسية والعسكرية والإنسانية، ولم يعد للوساطة ولا الدبلوماسية مكان. واحتلت إسرائيل القطاع وسيطرت على الحدود وفصلت غزة عن مصر، ولم يعد للقاهرة أية كروت ضغط لا على إسرائيل ولا على غزة.
مفارقات المؤسسة العسكرية رغم أهمية هذا التعاون في فترة حكم السيسي، ظل الجانب العسكري عند حدود أضيق. فكما جمعت المصالح إسرائيل بأعلى نظام الحكم في مصر رغم الرفض الشعبي، جمعت المصالح والضغوط قيادات المؤسسة العسكرية بتفاهمات معها رغم الكراهية والعداء من جانب الغالبية المطلقة من أفراد الجيش، التي كانت تضغط على قيادات المؤسسة لتحجيم نطاق العلاقة في أضيق الحدود الممكنة مع من يرونه “العدو الاستراتيجي”. فإسرائيل في المخيلة الشعبية هي العدو الذي احتل الأرض المصرية وقصف المدارس والمصانع وارتكب العديد من المجازر بحق أبنائهم، وقام بدفن الأسرى المصريين أحياء خلال الحروب المتتالية منذ سنة 1948.