د. أيمن نور يكتب : هل يسمع الجيش المصري هذا الصوت؟صدى استطلاع “باطل” في ضمير المؤسسة العسكرية

ليست الأرقام التي نشرتها حملة باطل مجرد نتائج لاستطلاع رأي إلكتروني، بل صدى عميق لوخزات ضميرٍ وطني، يعلو من تحت الرماد، ويهتف بما لا يقال في الميادين، ولا يُسمع في القاعات المغلقة. أكثر من ثمانية عشر ألف مصري، في أيامٍ معدودات، أجابوا على سؤالٍ بسيطٍ في صيغته، عظيمٍ في دلالته: لماذا لم يتدخل الجيش المصري لوقف المجزرة في غزة؟
جاءت الإجابات – بوعي شعبيٍ موجِع – لتضع المؤسسة العسكرية وجهاً لوجه أمام مرآة شعبها. 48% قالوا: استجابة لأوامر القيادة العليا. 31%: ضغوط خارجية. 22%: الحدود مع غزة ليست أمنًا قوميًا. خلف هذه الأرقام روايةٌ كاملة عن فجوةٍ بين السلطة والشعب، وعن صمتٍ لا يليق بمؤسسةٍ كان الشعب يراها حاميةً للكرامة قبل الأرض.
هذا الاستطلاع لا يُقاس بوسائله التقنية، بل بمصداقيته الرمزية. فهو ليس فقط تصويتًا رقميًا، بل شهادة معنوية من شعبٍ لم يعد يثق في قنوات التعبير الرسمية،
فاختار أن يكتب رأيه على جدار رقمي افتراضي، لكنه لا يقل وقعًا عن هتاف ميادين 2011. ومن هنا تنبع أهمية أن تقرأ المؤسسة العسكرية هذه الرسالة لا بوصفها تهديدًا، بل نداءً، لا كمؤامرة بل كفرصة.
حين يقول المصري إن حدود غزة هي جزءٌ من أمنه القومي، فهذه ليست وجهة نظر، بل استدعاء لذاكرةٍ من النضال والتضحية امتدت من السويس إلى سيناء. وحين يُتهم الجيش بأنه خاضع لإرادة القيادة السياسية، فهذا يعني أن ما تبقى من الصورة الذهنية للجيش في وعي الشعب بات على المحك، إن لم يُراجع موقعه من الدم الفلسطيني، والنداء الشعبي.
لا أحد ينكر تعقيدات الواقع، وضغوط الإقليم، وحسابات السلطة، لكن كل ذلك يجب ألا يكون مبررًا لتجاهل ما يجري من مذابح على حدودنا الشرقية، باسم الحذر أو الحياد أو الخضوع. فالحذر لا يبرر الجُبن، والحياد في المذابح خيانة، والخضوع ليس من شيم الجيوش الحرة.
إن الخطورة الأكبر في هذا الاستطلاع ليست في نتائجه وحدها، بل في ما تكشفه من شرخٍ نفسي بين المواطن ومؤسسةٍ كانت – ولا تزال – مفترضًا فيها أن تنحاز لأشواق الشعب، لا لأوامر فوقية ولا لإملاءات دونية
. ولعل الرسالة الأهم: إذا سقطت الثقة، وساد الصمت، لن يبقى سوى الانفجار أو الانكسار.
حملة باطل حين فتحت باب التصويت لم تكن تناور، بل تعبّر عن نبض شارع، وعن توقٍ شعبي لقرار شجاع، ولو كان بالكلمة أو الموقف أو كسر الحصار. فصمت الدبابة أحيانًا أبلغ من زئير المدافع، وفتح المعبر قد يكون أصدق من ألف بيان دبلوماسي.
إن كان الجيش فعلاً “حاكمًا فعليًا” كما وصفت الحملة، فإن عليه مسؤولية ليست سياسية فقط، بل أخلاقية وتاريخية. فالمذبحة المستمرة في غزة ليست حدثًا عابرًا، بل اختبارًا لجوهر عقيدتنا القتالية، ولحقيقة موقفنا من فلسطين التي لم تكن يومًا “قضية خارجية”.
نعرف أن لكل عصر توازناته، لكن بعض المواقف لا تُقاس بالتوازنات بل بالضمير. ولعل هذا الاستطلاع، بما فيه من صراحة موجعة، دعوة للاستفاقة قبل أن يُقال: كان هنا جيشٌ عظيم، وكانت هنا مصرٌ تسمع صوت شعبها.
فهل يسمع الجيش المصري هذا الصوت؟ وهل يقرأ هذه الأرقام لا كإدانة بل كدعوة للعودة لدوره الحقيقي؟
وهل يرى في هذا الاستطلاع نبضًا من شعب لا يزال ينتظر من جيشه موقفًا يليق بماضيه؟ تلك هي الأسئلة التي يجب أن تبقى معلقة في الضمير، لا في الأرشيف.