مقالات وآراء

د.كمال أصلان يكتب: غزة الجريحة.. هل أصبحت دماء أهلها رخيصة؟! وأين الضمير العربي والدولي؟!

أي إنسان لديه أدنى ضمير أو إحساس ويرى ما يحدث للأطفال والنساء والشيوخ، والحجر والشجر في غزة ولا يتحرك فهو آثم؛ لأن من حقوق الأخوة والإيمان أن يتحرك المسلم لنجدة المسلمين وبني جلدته، وألّا يقف صامتًا أمام ظلمهم وقهرهم، فمن تمام الإيمان، وحقوق الأخوّة الإسلامية، أن يهبّ المسلم لنصرة إخوانه المظلومين، لا أن يتقاعس أو يصمت.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه»؛ أي: لا يتركه للمعتدي دون دفاع، و«لا يُسلمه»؛ أي لا يُسلمه للعدو، ولا يخذله عند الشدة.

فالخذلان والصمت عن الظلم ودماء المسلمين من علامات ضعف الإيمان، وقد تصل إلى النفاق العملي إذا صاحبها رضا بالعدوان أو إعانة للظالم، قال الإمام النووي: السكوت عن الظالم مع القدرة على الإنكار نوع من الإعانة، وهو حرام.

وللأسف لم تعد مشاهد الدماء والدمار في غزة تُحدث ذات الأثر الذي كانت تحدثه سابقًا في الضمير الإنساني العالمي، فتكررت المآسي، وتوالت المجازر، حتى باتت معاناة أهل غزة تُستقبل بصمت قاتل من أغلب الأنظمة العربية وتواطؤ أو تجاهل من المجتمع الدولي.

فهل وصلت الدماء الفلسطينية إلى هذا الحد من الرخص؟ وكيف وصلنا إلى هذا المشهد المأساوي؟ والأهم: ما السبيل لحقن دماء المسلمين في فلسطين؟

فمنذ ما يزيد على 18 عامًا، تخضع غزة لحصار خانق فرضه الاحتلال «الإسرائيلي» بدعم أو صمت إقليمي ودولي، ومنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، وقطع الكهرباء، وتحكم في الموارد، وتحويل القطاع إلى ما يشبه سجنًا كبيرًا مفتوح السقف؛ هذا الحصار لم يكن فقط اقتصاديًا، بل كان محاولة ممنهجة لتجريد الإنسان الفلسطيني من إنسانيته، وتهشيم إرادته في الحياة والكرامة.

ورغم ذلك، لم يركع أهل غزة، صمدوا، وتعلموا، وقاتلوا، وربّوا أجيالًا تقاتل بالحجر والكلمة والصاروخ، غير أن الاحتلال لم يترك وسيلة إلا واستخدمها لكسرهم، بدءًا بالقصف العشوائي على الأحياء السكنية، وليس انتهاءً باستهداف المستشفيات والمدارس والمساجد.

وعند النظر إلى تكرار المجازر في غزة وسرعة نسيانها من الإعلام العالمي، يتبادر إلى الذهن هذا السؤال المؤلم: هل رخصت دماء الفلسطينيين؟ وما يضاعف من الألم هو صمت بعض العواصم العربية التي تبرر ذلك تحت ذرائع «السيادة»، و«عدم التدخل»، و«الواقعية السياسية».

لقد أصبحت المجازر مجرد أرقام في تقارير الأمم المتحدة، وأسماء الشهداء مجرد أخبار عاجلة في الشريط السفلي لنشرات الأخبار، ولا يوجد استنكار جاد، ولا عقوبات تفرض على الاحتلال، بل على العكس، يتم دعمه عسكريًا ولوجستيًا، بينما تُتهم المقاومة بالإرهاب.

الموقف العربي.. بين الغياب والتواطؤ

يتفاوت الموقف العربي الرسمي بين الصمت والتطبيع والتبرير، في حين تُظهر الشعوب العربية تضامنًا واسعًا مع القضية الفلسطينية، فإن أغلب الأنظمة تكتفي بإصدار بيانات باهتة، أو الدعوة لاجتماعات طارئة لا تُسفر عن شيء ملموس، وبعض الدول، للأسف، ذهبت بعيدًا في التطبيع مع الاحتلال، مبررة ذلك بذرائع واهية كالسلام والاستقرار، بينما الدم الفلسطيني يُراق، والمقدسات تُنتهك.

لقد باتت فلسطين ضحية لحسابات سياسية ضيقة، وضغوطات دولية واقتصادية، فمتى تتحرك الأنظمة العربية لإيقاف هذا النزيف المستمر في كل وقت، ومتى تستخدم هذه الدول الأسلحة التي اشترتها عبر عقود بالمليارات؟!

المجتمع الدولي وأخلاق الانتقائية

في كل عدوان على غزة، تتكرر ردود الفعل الدولية ذاتها: تعبير عن القلق، ودعوات إلى ضبط النفس، وبيانات تدعو إلى التهدئة من الطرفين، في مساواة ظالمة بين الضحية والجلاد، ولم يجرؤ المجتمع الدولي على إدانة الاحتلال بشكل صريح، أو فرض عقوبات رادعة كما فعل في أزمات أخرى مثل أوكرانيا، أو جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري.

بل إن بعض الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تقدم دعمًا عسكريًا وماليًا مباشرًا للاحتلال، وتستخدم «الفيتو» لحمايته من أي إدانة دولية في مجلس الأمن، أما منظمات حقوق الإنسان، فقد باتت عاجزة عن وقف نزيف الدم، واكتفت بالتوثيق والإحصاء.

واجب الأمة العربية والإسلامية

إن ما يجري في فلسطين هو جرح غائر في قلب الأمة الإسلامية، وامتحان حقيقي لمدى صدق الانتماء لقضية هي رمز للكرامة والعقيدة، ولا يمكن للأمة أن تنهض وهي تتجاهل قضية تمثل محور صراع بين الحق والباطل.

إن واجب الأمة؛ شعوبًا وحكومات، أن تتحرك، لا بالكلام فقط، بل بالفعل:

  • سياسيًا: عبر تفعيل الدبلوماسية المؤثرة، والضغط على المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته.
  • إعلاميًا: بكشف جرائم الاحتلال وتفنيد رواياته المزيفة.
  • اقتصاديًا: بوقف أي تعاون أو تطبيع مع الاحتلال، ودعم الاقتصاد الفلسطيني.
  • شعبيًا: عبر حملات الدعم والمقاطعة والنصرة الإعلامية والتوعوية.

وحقن الدماء الفلسطينية يتطلب تحركًا متكاملًا لا ينحصر في المساعدات أو التهدئة المؤقتة، بل يقوم على عدة محاور، منها:

  • الوحدة الفلسطينية؛ فالانقسام الفلسطيني الداخلي أحد أبرز أسباب الضعف، ولا يمكن الحديث عن صمود فعّال دون مشروع وطني جامع يلمّ شمل القوى السياسية، ويعيد ترتيب الأولويات على أساس المقاومة والتحرر.
  • المقاومة المشروعة؛ لأنها حق كفلته القوانين الدولية للشعوب المحتلة، ويجب دعم المقاومة، السياسية والعسكرية، بكل الوسائل، مع إبراز مشروعيتها على الساحة الدولية، وتفنيد دعاوى الإرهاب التي تُلصق بها زورًا.
  • العدالة الدولية؛ فيجب الدفع نحو محاسبة الاحتلال على جرائمه، سواء عبر محكمة الجنايات الدولية، أو من خلال تشكيل لجان دولية مستقلة، كذلك يمكن تحريك دعاوى قضائية ضد مجرمي الحرب في الدول التي تسمح قوانينها بذلك، كما فعلت جنوب أفريقيا.
  • إحياء الوعي الإسلامي والعربي؛ من خلال إعادة بناء الوعي الجمعي حول مركزية القضية الفلسطينية، وارتباطها بالعقيدة والمصير، فهو أساس أي تحرك ناجح، ولا بد من إدخال القضية في المناهج الدراسية، والخطاب الديني، والإعلام الثقافي.
  • الضغط الشعبي والدولي؛ من خلال تنظيم فعاليات تضامنية، واعتصامات أمام السفارات، ومخاطبة برلمانات العالم الحر، ويمكن إحداث ضغط مستمر قد يساهم في كبح جماح الاحتلال، كما فعلت تجارب ناجحة في جنوب أفريقيا وفيتنام.

إن دماء أهل غزة لم ترخص، ولكن ما رخص هو الضمير العالمي والعربي الرسمي الذي اختار الصمت أو التطبيع، غير أن صوت الشعوب لا يزال حيًا، وروح المقاومة ما زالت مشتعلة.

طريق الحرية طويل، ولكنه ليس مستحيلًا، يكفي أن نتذكر أن كل شعوب الأرض التي تحررت، بدأت من نقطة الألم.

وغزة اليوم ليست مجرد جغرافيا، إنها بوابة لقياس إنسانيتنا، وامتحان لقيمنا، وبوصلة لمدى صدق انتمائنا لهذه الأمة، وإذا كانت دماء الأطفال والنساء والشيوخ في غزة لا تحرك الساكن، فإننا قد نفقد ما تبقى من إنسانيتنا، فلنعد إلى البوصلة، ولنُجدد عهد النصرة، ففلسطين تستحق أن تُقاتل عنها كل الضمائر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى