
بغداد… حيثُ التاريخُ يقفُ على أطرافِ أصابعه، انتظرَ العربُ قِمةً، فحضرَ الوزراءُ، وغابَ الملوكُ والرؤساء، وتحدثتِ القاعةُ بفراغِها أكثرَ مما قِيلَ من فوقِ منبرِها!
قمة_بغداد لم تكن قمّةً بمقاييسِ القمم، بل كانت مشهداً رمادياً جديداً يُضافُ إلى ألبومِ النكوصِ العربيِّ الذي لا تنقصهُ الصور، ولا تحتاجُ فيه الكلماتُ إلى ترجمةٍ، فالغيابُ كان أبلغَ من أيِّ بيان، والهروبُ أصدقُ من أيِّ قرارٍ خائب.
حضرت مصر برئيسها، وكذلك الصومال، لتبدو الصورة مُربكة: دولةٌ واحدةٌ فقط من الوزن العربي الثقيل كانت على مستوى القمة فعلاً، بينما كانت المقاعد الأخرى مملوءة بالأسماء… لا بالأوزان.
لكن، الاستثناء الأهم والأشجع، كان حضور الأمير تميم بن حمد، رغم أن السياق الخليجي كان واضحاً في التغيّب، والمقاطعة شبه الكاملة. الأميرـتميم قرّر أن يحضر، لكنّ مَن أراد إفشال حضوره نجح في دفعه إلى الانسحاب، عبر خرق بروتوكولي فجّ، حين تم تقديم مَن يمثلون دولهم بمواقع أدنى على كلمة أمير دولة ذات سيادة، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا كمحاولة متعمّدة لإقصاء قطر عن منصة الخطاب، وحرمانها من قول كلمةٍ كانت -كعادتها- ستكون الأوضح والأكثر شجاعة في الشأن الفلسطيني.
السعودية لم تُرسل لا ملكاً ولا ولياً ولا نائباً، بل اكتفَت بوزير خارجيتها عادل الجبير. والإمارات مثلها، مثل شقيقاتها الخليجيات،لم يحضر رئيسها ولا رئيس الوزراء فأرسلت نائب رئيس الوزراء منصور بن زايد، دون أن يشعر أحدٌ أن تلك المشاركة تعبّر عن خطورة اللحظة.
بقية الدول من الجزائر وتونس وسوريا ولبنان وعُمان وموريتانيا وجيبوتي وغيرها، اكتفَت بتمثيل بروتوكولي باهت.
أما الرئيس اللبناني، فقد اختار أن يكون في زيارة لإيطاليا… لا لمؤتمر القمة، وكأن بغداد أبعد من روما!
كذلك أحمد الشرع الذي ربما ظن أن زيارة الرياض تكفيه عبأ حضور قمه عربيه لا يحضرها محمد بن سلمان.
النتيجة؟ قمّةٌ بقراراتٍ بلا طعم، كُتبت على نفس الورق الأصفر الذي كُتبت عليه قمم العقود الماضية:
نُدين قصف سوريا
نُطالب بمساعدات إنسانية لـ غزة
نحثّ على حلٍّ سياسيٍّ في السودان
دون الحديث عن أصل المشكلة وهو التدخل الخارجي الإماراتي في شئونها
نعم أكدت قمه خفض التمثيل علي
رفض التهجير و العدوان لكن كالعاده
… دون كلمة واحدة عن آليات، دون جملة تحمل التزاماً، دون جملة تُخيف العدو أو تطمئن الشقيق.
كتب نزار قباني:
“في الوطنِ العربيِّ كلُّ شيءٍ مؤقتٌ… حتى الكرامة.”
لكنَّ الكرامة لم تَعُد مؤقتة… بل مُعطّلة بالكامل، تُستبدلُ بالبروتوكول، وتُدفنُ تحت سجادِ قممٍ بلا قادة، وقراراتٍ بلا روح.
كم هو مؤلم أن تُخصَّص أربعون مليون دولار فقط لـ غزة ولبنان – مناصفةً – تحت عنوان صندوق عربي، بينما تحوّلت زيارات قادة العالم إلى الخليج إلى مهرجانات استرضاءٍ سياسي وصفقاتٍ بعشرات المليارات.
أموال الإعمار الآن مشروطة، تُمنح فقط إن توقّفت المقاومة، وكأنّهم لا يُريدون إعمار غزة بل إعادة صيغتها… إلى مدينة ميتة بلا صوت.
أما الفقرة التي أراد البعض نسيانها، فنذكّرهم بها:
في 17 مايو 1983، وقّعت حكومة لبنان اتفاقاً مذلاً مع الاحتلال الإسرائيلي، تحت مظلة أمريكية.
وفي 6 فبراير 1984، انتفض اللبنانيون وانهار الاتفاق… وعادت بيروت لتكتب بدمها ما لا تكتبه القمم بمدادها.
وفي 17 مايو 2025، يتكرر المشهد… في بغداد ، ذات الإملاءات، ذات الضغوط، ذات التواطؤ.
لكنّ كلّ خديعةٍ لها تاريخ
والتاريخ لن يغفر….
لعل كلمات الصحفي الصهيوني-كما يصف نفسه وغيره- كوهين لا تحتاج لأكثر منها وضوحا في تقدير قمه تخفيض التمثيل والآثر بغدادـ٢٠٢٥