
حين تضرب الكوارث، لا تترك وراءها دمارًا ماديًا فحسب، بل تصيب الأرواح والعقول والإيمان في عمقها. يُصاب الإنسان بحيرة الوجود، وقد تتزعزع ثقته في عدالة الحياة أو حتى في رحمة الله، إن لم يكن إيمانه راسخًا. ومع ذلك، فإن أعظم ما يظهر بعد الأزمات هو قدرة الإنسان– حين يتسلّح بالإيمان– على النهوض من تحت الركام، وبناء نفسه ومجتمعه من جديد. هذا هو المعنى العميق للإعمار والاستدامة في ضوء الإيمان.
ومن هنا تأتى أهمية الإعمار النفسي قبل المادي؛ قد تبدأ الدول ببناء الطرق والمباني، لكن الإنسان في الداخل يبقى متعبًا، محطمًا، فاقدًا للمعنى. لذلك فإن أولى خطوات الإعمار الحقيقي هي إعادة بناء الإنسان نفسيًا وروحيًا.
إن القرآن قدّم تصورًا واقعيًا ودقيقًا لطبيعة الابتلاء الإنساني، حين قال: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ… ﴾ (البقرة: 155). والحل في الاستجابة الإيمانية السليمة: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ… ﴾ (البقرة: 156).
الإعمار النفسي هنا هو ترميم المعنى في عقل الإنسان، وإعادة تشكيل علاقته بالله والقدر والذات، حتى يعود صالحًا للعيش والبناء من جديد.
والاستدامة تبدأ من الداخل، فهى ليست مشروعًا اقتصاديًا فقط، بل قدرة الإنسان على مواصلة الحياة بوعي وأمل بعد الألم. وتبدأ من: قناعة إيمانية بأن لكل محنة حكمة. صبر يعصم النفس من الانهيار. وروح ترى الخير حتى في الشدائد.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها.”
(رواه أحمد). هذا الحديث يجسد فلسفة الاستدامة حتى في لحظة النهاية!
“الإعمار في ضوء الإيمان”
الإعمار لا يكون مجرد رد فعل، بل فعل هادف نابع من إيمان. فالله سبحانه قال: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ (هود: 61)، أي طلب منكم عمارتها. والإعمار هنا لا يقتصر على البناء، بل يشمل إصلاح النفس، وتثبيت القيم، والنهوض بالأخلاق والمجتمع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس”(رواه الطبراني).
ان المعمر هو صاحب النفس الطويل الذى يراقب معوقات الإعمار والاستدامة عن كثب مثل: الانهزام الداخلي، حين يشعر الإنسان أنه لا جدوى من النهوض.
وضعف الإيمان، الذي يحوّل البلاء إلى كفر بالقدر بدلًا من تسليم.
وغياب الهدف الجماعي، فلا يمكن لمجتمع أن يُستدام وهو مفرّق في الرؤية. وهنا يأتي دور الإيمان كقوة دافعة لا تُقهر.
أبرز الحالات واقعية:
1- سراييفو– البوسنة: بعد حرب دامت أكثر من 3 سنوات، بدأت المدينة تتعافى، لا من خلال الإسمنت فقط، بل عبر المساجد والمدارس والجمعيات، التي كانت تعيد للناس الثقة، وتنشر معنى الصبر والرضا. أحد الأئمة قال: “نحن لم نخسر، نحن نُبتلى. والله لا يتركنا، بل يصنعنا بهذا الألم”. فنجحت سراييفو في إعادة البناء، لأن أهلها أعادوا أولًا بناء نفوسهم.
2- غزة– فلسطين: تتكرر الحروب على غزة، ومع ذلك، لا تنكسر. الناس ينهضون من تحت الركام، يبنون، يدرّسون، يزرعون. تقول أم شهيد: “أولادي أمانة، ورب العالمين استردّ أمانته. نحن لا نعيش عبثًا”. مشاهد العودة للحياة لا تتوقف، والرسالة واحدة: نحن نُربّى، لا نُهزم.
الخلاصة:
الضعف الإيماني بعد الكوارث طبيعي، لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى تيه دائم، بل من رحم الشدة يولد أحيانًا أعمق إيمان، حين يُصاحب البلاء فهمٌ، وصبر، وصحبة صالحة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما يُصيبُ المؤمنَ من نصبٍ ولا وصبٍ… إلا كفّر اللهُ بها من خطاياه.” (رواه البخاري ومسلم).
الإعمار والاستدامة ليسا مشروعين خارج الذات، بل ينبعان من القلب المؤمن والعقل الواعي، والمجتمعات التي تعي ذلك تبني بصدق وتثبت وتستمر.
إن البناء بالإيمان لا يسقط، والاستدامة حين تكون من الداخل تبقى رغم كل العواصف.