مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: خزائن نوال الدجوي فتحتها الخيانة وأغلقتها الصدمة المدوية

في قلب العاصمة المصرية القاهرة، حيث تقيم النخبة، وقع ما يشبه الفضيحة لا الجريمة فحسب، وما يشبه الفاجعة لا مجرد حادث سرقة.

حين يُنهب بيت شخصية أكاديمية بحجم الدكتورة نوال الدجوي، وتُسرق منه أموال ومجوهرات تتجاوز قيمتها ربع مليار جنيه مصري، دون أثر كسر، دون صخب، دون حتى ينبح كلب حراسة – فنحن لا نتحدث عن سرقة، بل عن عمل مُتقن، دقيق، وعن فاعل لا يمكن أن يكون “غريبًا”.

أمام هذه الواقعة، لن أرتدي عباءة القاضي، بل سأستعير قبعة المحقق الأدبي، وأغوص، كما فعلت أجاثا كريستي، في مسرح الجريمة لا للكشف عن اللص، بل للبحث عن الدوافع.

تلك التي لا تقل خطورة عن الفعل ذاته .. هل نحن أمام جريمة تقليدية أم فضيحة اجتماعية؟ هل دوافع الحرامي مادية بحتة؟ أم أننا أمام درس مدوٍ في خيانة القربى، وتهاوي القيم، وانهيار منظومة الثقة داخل أكثر الدوائر حميمية: العائلة؟

سأتحدث أولًا عن الجريمة من زاوية الفعل .. من الذي يعرف مكان الخزائن؟ من الذي يعلم محتواها؟ من الذي يستطيع تغيير شفراتها بلا عنف ولا ضوضاء؟ نحن أمام شخصية تعرف التفاصيل، تربّت في محيط المال، دخلت وخرجت دون ارتباك، واستولت على “كنز” ليس كغيره. هذا ليس لصًا جاء من الشارع. هذا شخص كان مرحّبًا به ذات يوم، يعرف مفاتيح الروح قبل مفاتيح الخزنة.

لكن المفارقة الكبرى، والتي يجب أن نتوقف عندها مليًا، ليست فقط في كيفية السرقة، بل في سؤال غريب يطرح نفسه بقوة: لماذا كانت الدكتورة نوال الدجوي تحتفظ بكل هذه الثروة في منزلها؟

هنا تبدأ الحكاية في التشظي نحو مستوى أعمق من التحليل، يتجاوز الجريمة إلى ما يشبه النقد الاجتماعي والسياسي. حين تخزن أكاديمية بهذا المقام هذا الكم الهائل من الثروات في فيلا، فالأمر لم يعد شأنًا خاصًا.

إنها رسالة مشفّرة عن أزمة الثقة في النظام المالي بالدولة. فهل فقد الناس الثقة في البنوك؟ أم أن “الفلوس الكاش” باتت أكثر أمنًا من حسابات لا أحد يعرف من يمدّ يده إليها في الظلام؟

هل نحن أمام نموذج يختزل فكر طبقة كاملة، ترى أن المال حين يخرج من عينها، لا يعود؟ وأن الحصون ليست في القوانين بل في الجدران؟ نحن لا نلوم المجني عليها، بل نطرح أسئلة تعكس هشاشة الأمان، حين تتحول البيوت إلى بنوك، والخزائن إلى خزائن أسرار.

أما عن الجاني، فلا يسعني إلا أن أقول إنه كان يعلم ما يفعل. لم يسرق ليأكل. لم يهرب بخاتم ذهب ولا هاتف محمول. نحن أمام عملية نقل ثروة كاملة. والفاعل لم يفعلها بدافع الجوع، بل بدافع الكره، أو الطمع، أو الرغبة في الانتقام، أو ربما كل هذا معًا. هذه ليست سرقة لحظية. إنها إعلان حرب شخصية، هادئة، خبيثة، دقيقة التخطيط، عميقة الأثر.

لذلك، يبدو لي أن هذه الجريمة ليست فقط “قضية جنائية”، بل مرآة مجتمعية تكشف أعطابًا كثيرة في نسيج العلاقات العائلية، في أنظمة الحماية، في فهمنا للمال ذاته.

كيف تُمزق العلاقات العائلية وتنهار الثقة لدرجة أن أقرب الناس إليك يمد يده إلى خزانتك، ويأخذ كل شيء دون أن يطرف له جفن؟!

هل هناك ما هو أبشع من أن يسرقك مَن جلس إلى مائدتك؟ هل هناك ما هو أقسى من أن تكتشف أن من ربّيته بيدك، كان ينتظر سقوطك ليجمع ما تبقى من رماد خزانتك؟

التحليل الجنائي للجريمة قد يكشف عن بصمات، عن وجوه، عن سطور في دفتر التحقيق. لكن التحليل الحقيقي يجب أن يكون أخلاقيًا ومجتمعيًا.

لماذا نصل إلى هذه الدرجة من الانفلات العاطفي؟ لماذا يتحول البيت إلى ساحة حرب باردة، تنفجر فيها الخيانات في صمت، وتتحرك فيها الثعالب داخل الجدران بثقة كاملة أن لا أحد يراقبها؟

قد يقول قائل: الجريمة تقع في كل مكان. نعم. ولكن ليست كل جريمة بهذا المعنى. حين تُسرق أكاديمية بقامة نوال الدجوي من داخل بيتها، من أقرب الناس إليها، وبأسلوب لا يترك أثرًا، فنحن أمام جريمة مزدوجة: سرقة المال، وسرقة الطمأنينة. ولا أرى أيّ عقوبة قانونية تستطيع أن تُعيد ما ضاع.

إنه عصر اللصوص المتأنقين، أولئك الذين لا يكسرون النوافذ بل يفتحون الأبواب بابتسامة. عصر تُرتكب فيه الجرائم بأيدٍ نظيفة ووجوه مألوفة. عصر، للأسف، لم يعد فيه البيت حصنًا ولا العائلة ضمانًا.

لعل قضية نوال الدجوي تكون صدمة توقظ المجتمع من غفلته. لعلها توقظ فينا ما نسيناه: أن الثقة لا تُمنح بلا حدود، وأن المال حين يُكدّس بلا حذر، يُغري حتى أطيب النفوس.

وإن لم يكن القانون قادرًا على معاقبة اللص الحقيقي، فليكن هذا المقال طعنة في ضميره، إن بقي له ضمير.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى