مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: برلمان بلا رقابة ونواب بلا شعبية ولا يمثلون إلا أنفسهم

عندما يُولد النائب من رحم الصفقات، ويُلقّى بالمنصب كما يُلقّى القش في النار، لا تنتظر منه أن يكون ممثلاً للأمة، أو صوتاً للناس، أو حتى خادماً للشأن العام.

في زمن الانحدار السياسي الذي نعيشه، لم يعد النائب نائباً بالمعنى الدستوري أو الوطني للكلمة، بل بات مجرد واجهة زائفة، لا يملك من أدوات الرقابة إلا صورة مبتسمة على لافتة مهترئة، ولا من قدرات التشريع إلا التصفيق للسلطة والتطبيل لها.

في هذا المشهد المعتم، تظهر أنواع النواب كما تظهر الحشرات حول الضوء؛ كلٌّ له طريقته في الوصول، وكلٌّ له أسلوبه في التنكر لجوهر الوظيفة التي جاء من أجلها .. لا أحد منهم يُجيد الدور الذي يفترضه الدستور لا تشريع، لا رقابة، لا مساءلة، ولا حتى موقف رمزي يرفع الرأس.

أولهم “نائب الخدمات“، ذاك الذي يحوّل البرلمان إلى ديوان عام للمحاباة وتوزيع المكافآت والتوصيات الوهمية.

لا يهتم بقانون ولا يحفظ بنداً من لائحة، لكنه خبير في إقناع مواطن بسيط بأنه حصل له على معاش أو وظيفة أو ترخيص.

يخدع الناس بأن هذا هو دور النائب، بينما الحقيقة أن ما يفعله هو ابتذال للوظيفة البرلمانية، واختزالها في دور موظف محليات بدرجة نائب.

ثم هناك “نائب الباراشوت“، ذلك الذي سقط فجأة من السماء، بلا خلفية سياسية، ولا موقف واضح، ولا جذور في دائرته.

مجرد واجهة تم نفخها في ليل، ورُشّت لها الأصوات بالمال أو النفوذ، لتكون أداة طيّعة بيد من يحرّكون المشهد من وراء الستار.

هو لا يعرف أسماء القرى التي يمثلها، ولا حجم المعاناة التي يعيشها الناس، لكنه يجيد التقاط الصور في المناسبات، وتوزيع الابتسامات الجوفاء.

ولا يمكن تجاهل “نائب المال“، الذي اشترى مقعده كما تُشترى السلع في المزاد .. يدخل البرلمان وقد أنفق الملايين، فيعتبر المقعد استثمارًا يجب أن يعود بأرباح مضاعفة.

هذا النائب لا يرى في التشريع مصلحة عامة، بل وسيلة لضمان مصالحه ومصالح شركائه. يتعامل مع منصبه كمظلة تحميه من القانون، لا كمنصة لحماية الناس بالقانون.

أما “نائب التلميع“، فهو النجم الكاذب الذي لا يغيب عن الشاشة ولا يشارك في جلسة .. دائم الحضور في البرامج، دائم الغياب عن القاعة.

يجيد فن الإطلالة، ويبرع في بيع الوهم، ويقتات على القضايا المثيرة للجدل، دون أن يقدم حلاً حقيقيًا أو موقفًا يُبنى عليه. هدفه أن يبقى في الضوء، لا أن يضيء للناس طريقهم.

ثم نلتقي بـ”نائب التوريث“، الذي لم يكن يوماً نائبًا، بل امتدادًا لوالده أو شقيقه أو عشيرته .. وصل إلى البرلمان بوراثة النفوذ، لا بثقة الناس.

يجلس على مقعد لم يُنجزه بعرق الجبين، بل حُجز له مسبقًا .. هو لا يملك طموحًا في التغيير، لأنه ببساطة لا يفهم معنى التغيير.

ولدينا أيضاً “نائب الاستعراض“، صاحب المقاطع الفارغة والشعارات الجوفاء. يتكلم كثيرًا ولا يقول شيئًا. يهتف كثيرًا ولا يجرؤ على مساءلة مسؤول واحد.

يحوّل القضايا الجادة إلى مشاهد مسرحية، ليحصد الإعجابات ويصطاد اللحظات، لكنه لا يملك الشجاعة لمواجهة فساد حقيقي أو المطالبة بحق مسلوب.

أخطرهم جميعاً “نائب السلطة“، الذي لا يعرف ولاءً إلا للحاكم، ولا يرفع رأسه إلا لتلقي التعليمات. هو نائب لا يناقش، لا يعارض، لا يفكر.

مجرد ظل باهت للسلطة، يُسند لها ما تشاء ويبارك كل قرار. حتى لو انقلبت الدنيا على رأس الناس، فهو آخر من يعلم وأول من يُصفّق.

هؤلاء هم نوابنا. نواب لا يصوغون قوانين، ولا يستخدمون أدوات الرقابة، ولا يحمون مصالح الناس. نواب بلا عمود فقري، بلا مواقف، بلا شرف تمثيل.

جميعهم يشتركون في صفة واحدة .. لا أحد منهم نائب شعب. جميعهم ينتمون إلى نفس الطينة المهترئة التي تفرز الرداءة والتواطؤ والاستكانة.

ولعل الأكثر فجاجة أن هذا المشهد لم يعد يثير الغضب، بل أصبح محل سخرية. الناس فقدت ثقتها في البرلمان، وفي النائب، وفي السياسة كلها.

كيف لا وهم يرون المقاعد تُباع وتُمنح وتُتداول كأنها أسهم في بورصة فاسدة، بينما هم يدفعون الثمن فقرًا وتهميشًا وقهرًا يوميًا؟

البرلمان في حقيقته مرآة لواقعنا السياسي، لكنه أيضًا فرصة ضائعة كان يمكن أن تكون وسيلة للخلاص .. لو وُجد النائب الحقيقي، الذي يملك الجرأة على مساءلة الحكومة، الذي يبادر بطرح القوانين، الذي يحمل على كتفيه هموم الناس بدلًا من أن يتسوّل أصواتهم وقت الانتخابات وينساهم بعد الفوز.

لقد أصبحت النياشين البرلمانية تُوزّع على من لا يستحق، وصارت القاعة مليئة بأجساد خالية من الفكر والضمير، وامتلأ المجلس بأصوات لا تُعبّر إلا عن صمتٍ مريب .. والنتيجة: فراغ سياسي، وفقدان أمل، ومؤسسة تشريعية مشلولة.

ما نحن بحاجة إليه ليس مجرد تغيير وجوه، بل ثورة حقيقية في مفهوم التمثيل النيابي .. نحتاج نوابًا لا يخافون، لا يساومون، لا يتاجرون بآلام الناس .. نوابًا يأتون من الميدان لا من القصور، من هموم الشارع لا من موائد الصفقات.

إلى أن يأتي هذا اليوم، سيبقى البرلمان صورة كاريكاتيرية، وسيظل النائب مجرد كائن غريب، لا ينتمي إلى هذا الشعب، ولا يمثل سوى مصالحه الشخصية.

وعلينا نحن، كشعب، أن نكفّ عن إعطائهم شرعية لا يستحقونها، وأن نستعيد فكرة “النائب الحقيقي” من تحت الركام.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى