
هل من إنسان عاقل، يتابع أوضاع العالم وشؤونه، ولديه ذرة من الضمير والحسّ الإنساني، سيصدّق بعد اليوم ادّعاءات الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وحرصه «الشديد» على السلام العالمي، وعلى سيادة الدول، وحقوق شعوبها، وحريتها، فيما هو المنافق المستبدّ، الظالم، والعنصريّ المنحاز دائماً إلى جانب الطغاة والأنظمة الفاسدة، وقتلة الشعوب، ومرتكبي الجرائم ضدّ الإنسانية؟
هل من عاقل حرّ سيصدّق قرصان العالم ووعوده، الذي يعطي الشعوب من طرف لسانه الحلاوة، يغري، يبتز، يحذر، يهدّد، ينهب دولاً، ويروغ منها كما يروغ الثعلب؟! أيّ أحمق سيصدق الغرب بعد اليوم، الذي قضّ مضاجع دولنا العربية وهو يملي علينا الدروس تلو الدروس في الأخلاق، والسياسة، والديمقراطيّة والحريّة، والسلام؟!
على مدى قرون طويلة، كم ذاقت شعوب في العالم من الغرب، الاضطهاد، والويلات، والاستبداد، والرق، والقتل، والعبوديّة، والإبادة الجماعيّة للسكان الأصليين، والنهب المنظم لثرواتهم وخيراتهم! يريدنا الغرب أن نقتنع بزيف شعاراته، و»غيرته» على شعوبنا، وهو داخل هيكل يتجمّع فيه مرابون متوحّشون، وقتلة اقتصاديّون، ومُشعلو حروب، ومصاصو دماء دول وشعوب، يديره قرصان محترف لا مثيل له في العالم كله..
بعد سنة وثمانية أشهر من المجازر الدمويّة والتطهير العرقيّ، والإبادة الجماعيّة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق أهل غزة، ورغم استمرار عمليات القتل الجماعي المتعمّد، وسياسة التجويع الإجراميّة التي تمارسها «إسرائيل»، وتنفذها على مرأى من العالم كله، وبالذات أمام أعين الغرب، وغيبوبة العالم العربي الذي أثبت وللأسف عن عدم جديّته، وفاعليّته، وتأثيره، وبان عجزه بشكل فاضح في تجنّب انهيار الأمة كما يجب، وتركها لمصيرها فيما هي تتفكك، وتنزلق نحو الهاوية.
أما الغرب الذي يُغرقنا بمبادئه النظريّة، والقابض بشراسة على دول في المنطقة من كلّ جانب، يتحمّل دون شك المسؤوليّة الكبيرة، نتيجة تدخّله وهيمنته على القرار الدولي، وقرار الدول في المنطقة التي يتحكم بها كالدمى المتحركة على مسرح السياسة الدولية وهي تشدّ عيون الناظرين لا أكثر! ما الذي فعله الغرب جدياً لوقف الحرب والإبادة الجماعية في غزة، وتمادي العدوان المتواصل على لبنان؟!
هل هناك من زعيم في الغرب أدان «إسرائيل» بكلّ قوة واتخذ بحقها عقوبات صارمة بسبب ما تقوم به من جرائم وحشيّة ضدّ المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم؟! هل اتخذت دولة غربيّة ما، إجراءات حاسمة تردع «إسرائيل» وتُجبرها على الالتزام بالشرعيّة الدولية، واحترام مبادئ الأمم المتحدة؟!
كم هو قبيح نفاق الغرب، عندما يصدر عنه بيان يعبّر عن «قلقه»، و»خوفه»، من استمرار العمليات الحربيّة في غزة، دون أن يُحمّل «إسرائيل» المسؤولية المباشرة، أو يتخذ بحقها إجراءات رادعة تضع حداً لعدوانها ومجازرها! في الماضي القريب، كان الاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة، إذا ما قام فلسطينيّ في غزة بعمل عسكريّ ضد الاحتلال، كان كل منهما يُصدر على الفور بياناً شديد اللهجة يدين فيه العمل «الإرهابي»، على حدّ زعمه.
لكن ما هو موقفهما اليوم بعد سقوط أكثر من مئة وخمسين ألف شهيد وجريح فلسطيني على يد آلة الحرب الإسرائيلية؟
للأسف الشديد لم ترفّ أجفان قادة الغرب لا سيما القابع في البيت الأبيض، كي يقوموا بما يجب أن يقوموا به، ويوقفوا حرب الإبادة، والقتل والتجويع بحق شعب غزة! إلى هذا المنحدر وصلت سياسة الغرب اللاأخلاقية، واللاإنسانية، وهو يتبع ازدواجية المعايير، والانحياز المطلق لمجرم حرب لا مثيل له في العالم كله، والوقوف الكامل إلى جانبه، رغم عدم التزامه بالقوانين الأمميّة، متجاوزاً قرار محكمة الجنايات الدولية بكلّ تحدّ ووقاحة، فيما واشنطن ودول أوروبية أخرى لا تكترث بالقرار، بل تسمح لطائرة مجرم الحرب بعبور أجوائها، مخالفة بشكل علنيّ قرار المحكمة الدولية!
كم هو الغرب ظالم ومنافق ومعه الكاوبوي الكبير، فاقد للحسّ الإنساني عندما يشاهد مأساة شعب غزة، نساءها، وأطفالها، وشيوخها، كيف تُهدم على رؤوسهم الخيم وما تبقى من بيوت لهم! كم هو ظالم وقبيح الغرب، مجرد من الإنسانية، الذي لم يتوقف عن تزويد القتلة في تل أبيب، بكل ما يحتاجونه من مال وسلاح ودعم سياسي وإعلامي، ثم يغضّ النظر عن أشلاء جثث الرضع والأطفال المبعثرة تحت الركام!
الغرب المنحاز يبذل القليل القليل من الجهد لإقناع «إسرائيل» السماح بإدخال مواد الغذاء والأدوية إلى غزة، فيما هو يراهن فعلياً على الوقت، يستعجل في داخله الجيش الإسرائيليّ كي يحسم الوضع بسرعة في القطاع، ويُنهي كل شيء. لو أراد قرصان العالم وقف الحرب وفك حصار التجويع لفعل واستطاع، لكنه لا يريد ذلك.
إنّه يعمل لصالحه وصالح الدولة العظمى، وخدمة «إسرائيل». لقد آثر أن يسخر نفسه ليكون جابياً للمال بدلاً من أن يكون له موقف مشرّف شجاع كمواقف الرجال العظام الذين عرفهم العالم! لا نريد بعد اليوم أن نسمع رئيساً غربياً منافقاً يتكلم عن العدالة الدولية والسلام، وحرية الشعوب وحقوق الإنسان! لا نريد أن نسمع كلمة في هذا الشأن من داعمي القتلة ومجرمي الحروب، والمشاركين في سفك دماء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين.
لا نريد بعد اليوم أن نشعر بالغثيان والقيء في كل مرة يطلّ فيها قرصان العالم، بخطاب جاعلاً نفسه حمامة سلام، ورافضاً للحروب، وحريصاً على الأمن العالمي، وحرية الشعوب واستقرار الدول!
القرصان ليس إلا مقاولاً، وجابياً، وتاجراً في هذا العالم، يفعل فيه ما يشاء، دون أي اعتبار للحقوق المشروعة للدول والشعوب مهما علا شأنها، أكانت صديقة أو حليفة أو عدوة! قرصان لا يهمّه استقرار الدول ولا نجاح أنظمتها، بل يهمّه مصالح إمبراطوريته العظمى، حتى ولو سحقت هذه المصالح في طريقها، المبادئ والقيم، وحرية الشعوب وحقوقها، وأمن الدول واستقرارها.
رغم كلّ ذلك، لا يزال هناك في المنطقة من يؤثر الدوران في فلك الغرب، والاستمتاع في الفلك الأميركي، إما رغبة، أو رهبة، أو طمعاً، أو عمالة، أو ارتزاقاً، وبعد كلّ ذلك يريد الكاوبوي أن نصدّقه، ونصدق وعوده، ونثق به وبإمبراطوريته وهو الذي انقضّ على اتفاقيات دوليّة وانسحب منها بكل فظاظة!
لا ثقة مطلقا بداعمي الحروب في عالمنا العربيّ، ولا ثقة لنا بكل مَن يدعم عدوّنا، ويعمل على تفكيك بلداننا، وقتلنا، وتقسيمنا، وإذلال شعوبنا! يا قادة في المشرق العربي ومغربه، لا تراهنوا على مرابي أوطانكم، وشعوبكم، حيث لا خير فيه ولا مدد. عند أول اختبار ظهرت حقيقته البشعة، وما فلسطين غزة، ولبنان وسورية إلا النموذج الفاضح لسياساته المنحازة الداعمة لمجرم الحرب، والهادفة إلى تغيير ديموغرافية المنطقة، وتاريخها، وجغرافيتها، وتفكيك نسيج شعوبها.
إنها المرحلة الأخطر في تاريخنا الحديث، التي ستقرّر مصيرنا ووجودنا، ووحدتنا. لذلك من المعيب بعد اليوم تكابر البعض، وإظهار فرحتهم، وحقدهم، وشماتتهم، واستجلابهم للعدوّ كي يفعل ما يتمنّونه بحق الآخرين من أبناء وطنهم، أو الرهان على دول التسلّط والنفوذ التي ما توقفت عن ممارسة سياسة التفرقة، ومصادرة قرارنا، والمسّ بسيادتنا. لا تنتصروا بقوى الاستبداد والهيمنة على حساب وطنكم وشعبكم، بل انتصروا بوحدتكم على قوى العدوان والتسلط والنفوذ، وعلى عدوكم التاريخيّ الطامع بأرضكم علانية، حتى تصونوا شرفكم وشرف وطنكم، وتحفظوا شعبكم، ومستقبل أولادكم وأحفادكم. كم كان محقاً المناضل الأمميّ تشي غيفارا عندما قال يوماً: «لولا خونة الداخل، ما تجرّأ عدو الخارج على وطنك»…