
هو الصوت العربي الأصيل، والموهبة الفذة التي أوصلت أنغام الشجن، والإحساس للآذان العربية، والغربية.
هو الشعور بالحنين، لمن عاصره ومن لم يعاصره، فكان نبض الطرب العربي وهو حي، لكنه ما زال ينبض حتى بعد وفاته.
إنه الأصالة ذات الجينات السوية، التي لم تعرف حقد أو كراهية لأياً من كان، فكان يقابل السيئة بالحسنة.
إنه ملك عرش القلوب العربية (فريد الأطرش)، سليل الأمراء، ورفيق البسطاء.
إذ ولد اميراً يوم 21 إبريل عام 1917 في بلدة القريّا، بجبل الدروز جنوب دولة سوريا، ثُم ترك سوريا وعمره ثمانية أعوام فقط، بعد ان هاجرت عائلته مضطرة إلى مصر بـ (القاهرة) بعد الثورة السورية الكبرى التي اندلعت يوم 17 يوليو 1925 حيث كان أبوه أحد قادة الثورة ضد الاحتلال الفرنسي.
عائلته عريقة، فأبوه هو الأمير فهد الأطرش، أحد زعماء جبل الدروز، وأمه الأميرة علياء المنذر، التي لعبت دور كبير في حياته الفنية، فهي أول من علمه أصول الغناء والعزف، وكانت سيدة ذات ذات حسب ونسب، وصوت جميل، وذوق موسيقي رفيع.
وبعد أن استقرت عائلته في مصر، انقطعت أخبار الوالد، ونفد المال الذي كان بحوزة الأم، وهذا ما دفعها للغناء، ووافق أبناوها : فريد وفؤاد الأطرش، على عملها بشرط مرافقتها أينما تذهب.
وحرصت الأم على بقاء أبنائها في المدرسة، لكن الأبناء كانوا يعملون، وكان (فريد الأطرش) يعمل ببيع القماش، وتوزيع الإعلانات من أجل إعالة العائلة بجانب دراسته.
وفي ذات الوقت بجانب الدراسة والعمل، ظل (فريد الأطرش) يبحث عن سبيل للفن، وبعد عناء مرير بدأ في تسجيل أغنياته المستقلة في الإذاعة.
فسجل أغنيته الأولى (يا ريتني طير لأطير حواليك) كلمات وألحان الملحن الفلسطيني يحيى اللبابيدي، ومن بعدها أصبح يغني في الإذاعة مرتين في الإسبوع، مقابل أجر زهيد.
ثم التحق (فريد الأطرش) بمعهد الموسيقى في القاهرة، وتتلمذ على يد كبار الأساتذة المصريين، والعرب، وكان من أوائل من عزفوا آلة (العود) بشكل أكاديمي متقن.
وظهرت موهبته سريعاً فكان يعزف، ويغني في الإذاعة المصرية، وذلك في ثلاثينيات القرن العشرين.
وقد تميز (فريد الأطرش) بذوق موسيقي راقٍ، وكان فنانُ مثقف، يقرأ الشعر، ويحب الأدب.
وكانت اختياراته لكلماته تتم بعناية شديدة، والحانه بروح شرقية ممزوجة بتأثيرات عالمية.
أما عن آلة (العود) فقد كان رفيقه الأوفى، وصوته المملوء بالشجن الذي يلامس القلوب.
غنى فريد الأطرش أكثر من 350 أغنية، ولحن معظمها بنفسه، وامتازت ألحانه بطابع شرقي أصيل، ولمسة رومانسية حزينة.
كما مثل في 31 فيلم، كان معظمها من إنتاجه، وجمع فيها بين التمثيل والغناء، وكان محور كل افلام (فريد الأطرش) يدور حول قضايا الحب، والحرية، والوفاء.
يُعد (فريد الأطرش) في مقدمة أعظم الفنانين العرب على مر التاريخ، فكان يلقبُ بـ (ملك العود) وهو لقب استحقه عن جدارة، بخلاف سحر صوته المميز.
لقد خرج من رحم التجارب القاسية، من أمير مُنعم، إلى شخص من البسطاء، فتشكلت شخصيته، ومن ثَم مسيرته الفنية.
ظل يشعر طوال حياته بالحنين إلى الوطن (سوريا) فكانت أغانيه تحمل نبرات الشجن العميق، التي لا تعرف الإنتظار حتى تصل قلوب مستمعيه.
لقد مر (فريد الأطرش) بأزمات عاطفية عديدة، بسبب حياته التي كانت مزيج بين الترف والفقر، والعز والمعاناة، فكان بين صراعين إما أن يُؤثر نفسه فيخسر فنه، أو يُؤثر فنه على نفسه .. وهذا ما حدث.
لقد أحب (فريد الأطرش) الفنانة سامية جمال، واستلهم من حبه هذا العديد من الأغاني التي حملت مشاعر العشق، والفقدان، مثل أغنية (حبيب العمر) والتي قال فيها :
“حبيب العمر، حبيتك .. وأخلصت في هواك عمري .. لا يوم خنتك ولا نسيتك .. ولا في يوم غبت عن فكري”.
وبعدها وقع في حب الفنانة شادية، لكن مشروع الزواج لم يكتمل أيضاً، لقد ظل وحيداً دون رفيقة تؤازره، إلا من فنه الراقي.
وعندما بلغ الثلاثين من عمره، توفيت أمه الأميرة علياء المنذر عام 1947، تلك السيدة التي كانت داعمة رئيسية له ولفنه، فكان لرحيلها صدمة، فعبر عن حزنه العميق عليها، في العديد من أغانيه الحزينة التي كتبها ولحنها بعد رحيلها.
لم يأتي فنان مثل (فريد الأطرش) فقد كان كريماً وسخياً، وقدّم المساعدة المالية للعديد من الفنانين والمحتاجين.
وكان من أبرز من ساعدهم : الفنان عبدالسلام النابلسي، إذ تكفّل بمصاريف علاجه بعد مرضه، كما ساعد الفنانة مديحة يسري عندما مرت بأسوأ ضائقة مالية في حياتها، ولطالما ساعد كثير من الشعراء، والملحنين الشباب من دون صياح، أو جهر بالخير.
بيد أن معاناته مع الحياة أمر، ومعاناته مع المرض كانت أمرُ آخر، لقد عانى (فريد الأطرش) من مرض القلب اللعين منذ أن كان طفلُ صغير، فكان الشعور بقرب الموت حاضر منه في كل حين.
لذا كانت بعض أغانيه عبارة عن نظريات فلسفية عن الموت، مثل أغنية “ودعت حبك”. والتي قال فيها :
“حكمت يا ربي .. تذبل زهور حبي قبل الأوان .. واتمنى فى وداعنا .. يا رب تجمعنا بعد الزمان .. أخفي دموعي وطول نحيبي .. واضحك لأصحابي وحبيبي .. ما دام وداعكم من نصيبي”.
ومع ذلك، كان (فريد الأطرش) يصر على العمل والإبداع رغم معاناته، حتى وافته المنيةُ في يوم 26 ديسمبر 1974.
مات (فريد الأطرش) بعد أن عاش 57 عام فقط، بيد أن الهموم، والضغوط، والعاطفة، والمرض جعلوا من شكله يبدو كما لو أنه كان في العقد الثامن من عمره.
مات (فريد الأطرش) ورحل بالجسد، إلا أن إرثه خالد، ولا زال باقياً.
رحم الله الفنان الراحل فريد الأطرش، وجعل مثواه الجنة.
وعلى الله قصد السبيل